تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلناه.)
قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: ٢].
قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) يستدل به فريق من أهل العلم على علو الله سبحانه، وأنه سبحانه وتعالى في السماء، كما قال عن نفسه: ﴿أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ [الملك: ١٦]، وكما قال: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: ٥]، فالإنزال كما هو معلوم يكون من أعلى إلى أسفل.
(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) : هذه منة من الله سبحانه وتعالى على العرب إذ نزل القرآن بلغتهم، وكما قال الله سبحانه وتعالى ممتناً على نبيه ﷺ وعلى العرب: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف: ٤٤]، أي: لشرف لك ولقومك يا محمد أن نزل عليك هذا القرآن، وأن نزل بلغتك ولغة قومك.
فشرف للعرب أن القرآن نزل بلغتهم، ولهذا شكر لا بد أن يقدم، فمن المعلوم من كتاب الله ومن سنة رسول الله ﷺ أن النعم تستلزم مزيداً من الشكر، فكلما أنعم الله على قوم بنعمة لزمهم أن يقدموا لها مزيداً من الشكر، كما قال الله تعالى لمريم عليها والسلام: ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٤٢]، فأمام هذا الاصطفاء والتطهير: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [آل عمران: ٤٣].
وكما قال الله سبحانه وتعالى ليحيى عليه السلام: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ [مريم: ١٢]، وكما قال: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ [الكوثر: ١]، فلأنا أعطيناك الكوثر: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر: ٢].
وكذلك قال تعالى ممتناً على نبيه عليه الصلاة والسلام: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾ [الشرح: ١-٣]، ثم ختمت السورة بقوله تعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ [الشرح: ٧-٨].
فكل من أنعم الله عليه بنعمة فإنه يلزمه أن يقدم لها شكراً موازياً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب إذا أكل أحدكم الأكلة أن يحمده عليها، وإذا شرب الشربة أن يحمده عليها)، وقال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: ٧].
فعلى العرب أن يشكروا نعمة الله عليهم؛ إذ أنزل القرآن بلغتهم، فلزاماً عليهم أن يحملوا عبء الدعوة إلى الله أكثر من غيرهم، فهي نعمة أسداها الله إليهم ولم تُسد إلى غيرهم؛ فجدير بهم إذاً أن ينهضوا إلى حمل دعوة الإسلام وبثها ونشرها في العالم، بل ويلزمهم ذلك، وقد قال الله تبارك وتعالى محذراً إياهم من التخاذل عن هذه المهمة: ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ [الأنعام: ٨٩].
من هنا ينشأ اعتزازنا بلغة العرب، لا لأنها لغة لجنسنا ولبني جلدتنا، ولكن لأنها اللغة التي نزل بها كتاب ربنا، والتي تحدث بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فمن ثم لزمنا التمسك بها، ولزمنا بثها ونشرها من غير استحياء ولا استنكاف.
قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، أي: لعلكم تفهمون، وكما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم: ٤].