من زنى بامرأة فهل له أن يتزوجها
من المسائل التي تلتحق أيضاً بالمسائل التي نحن بصددها: رجل زنا بامرأة هل يتزوجها؟ القول الأول: قال كثير من أهل العلم لا بأس بذلك ويصدق عليهما قول من قال: أوله نفاح حرام وآخره نكاح حلال.
هذا رأي فريق من العلماء، والله أعلم.
وقد جاء في سبب نزول قوله تعالى: ﴿الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور: ٣] ما أخرجه أبو داود بإسناد حسن: أن رجلاً من المسلمين كان يقال له مرثد بن أبي مرثد كان يحمل أسارى المسلمين من مكة إلى المدينة يهربهم، وكانت له صديقة في الجاهلية قبل أن يسلم يقال له عناق فذهب يوماً لنقل بعض أسارى المسلمين من مكة إلى المدينة فقابلته عناق في الليل فعرفته فقالت له: مرثد! قال: مرثد، قالت: هلم فبت عندنا الليلة يا مرثد، قال لها: يا عناق إن الله قد حرم الزنا، فهيجت عليه الناس، فقالت: يا معشر قريش! هذا رجل يحمل أسراكم إلى المدنية، فجرى فاختبأ في كهف فجاءوه فوقفوا عليه ولم يرونه، فانطلق بعد أن انصرفوا وحل أسيرية وحملهما وانصرف، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله! أأنكح عناقاً -يعني: أتزوج عناقاً - فأعرض عنه النبي ﷺ وقال: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) ونزلت الآية الكريمة، فعلى هذا اختلف العلماء في تفسير النكاح في الآية على قولين: قوله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) وعلى ذلك فلا يجوز لرجل عفيف أن يتزوج بامرأة قد زنت، ولا يجوز لامرأة عفيفة أن تتزوج برجل قد زنى، وهذا رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، واستدل له البعض بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله).
القول الثاني: وهو قول أكثر: ومن أهل العلم من قال: إن المراد بالنكاح في قوله تعالى: (الزاني لا ينكح).
الجماع، ويكون المعنى: على أن الزاني لا يطاوعه على زناه إلا زانية مثله أو مشركة، والزانية لا يطاوعها على زناها إلا زان أو مشرك، فحملوا الزنا ضمناً على الجماع، فالزاني لا تطاوعه على الزنا إلا زانية مثله أو مشركة لا تعتقد حرمة الزنا، ويؤيد هذا القول: النظر في الآية الكريمة، فلو فسرنا النكاح بالزواج في هذا الموطن لكان المعنى: الزاني لا يتزوج إلا زانية أو مشركة، ولكان في الآية الكريمة إباحة تزوج الزاني بالمشركة وهذا حرام؛ لأن الله يقول: ﴿وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢١]، ويقول: ﴿وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ [الممتحنة: ١٠]، وأيضاً لو قلنا بذلك: لأبحنا للزانية أن يتزوجها المشرك لقوله: ﴿وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ﴾ [النور: ٣] وهذا حرام، فإن الله تعالى قال: ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ [الممتحنة: ١٠]، وقال: ﴿وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾ [البقرة: ٢٢١].
فهذا الذي حذى بنا إلى ترجيح رأي العلماء القائلين: إن المراد بالنكاح هنا الجماع، وليس المراد بالنكاح العقد، وكان من حجج القائلين بأن المراد من النكاح العقد هو: أن أغلب آيات الكتاب العزيز التي ذكر فيها النكاح محمولة على عقد التزويج، وهذا وإن كان يصح لهم في كثير من المواطن، لكن ثم مواطن لا يصح لهم ذلك، كقوله تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾ [النساء: ٦] ليس معنى قوله (بلغوا النكاح) إلا بلغوا الحلم، والله أعلم.
وكذلك في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠] المراد: العقد والجماع نفسه، بدليل حديث النبي صلى عليه الصلاة والسلام: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) والله أعلم.
قال سبحانه: ﴿الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ﴾ [النور: ٣] والزاني لا يساوي المشرك أبداً، فالزاني مسلم ولا يكفر بهذا الزنا إنما يكون قد ارتكب كبيرة من الكبائر.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق، قال أبو ذر: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ قال: وإن زنى وإن سرق ثلاثاً، وفي الثالثة قال: وإن رغم أنف أبي ذر) -أي: وإن ألصق أنف أبي ذر - في التراب، أما المشرك فإن الله لا يغفر أن يشرك به، وتقدم شرح فقه هذا الحديث.
قال تعالى: ﴿وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور: ٣] وقد تقدم أن الرجل إذا زنا بامرأة، فالتحرير في هذه المسألة يقتضي: أن له أن يتزوجها.