تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بما تبصرون.)
﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ﴾ [الحاقة: ٣٨-٣٩].
(فلا) من أهل العلم من قال: إن (لا) هنا صلة، والمعنى: (أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون)، ومن العلماء من قال: إنها زائدة، كقوله تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: ١٢] أي: (ما منعك أن لا تسجد)، فالمعنى: ما منعك أن تسجد، وكقوله: ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ [الحديد: ٢٩]، لئلا يعلم، أي: ليعلم، ﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٥]، أي: أنهم يرجعون.
فالرجوع إلى الحياة الدنيا محرم عليهم.
ومن العلماء من قال: (إن) :(لا) هنا زائدة، وبعدها: أقسم على ذلك بما ترونه وما لا ترونه، يعني: أقسم بأشياء تعلمونها وأشياء لا تعلمونها.
ومن العلماء من قال: إن (لا) نفي لشيء قد تقدم.
أي: فلا تظنوا أنكم تتركون سدى، وأقسم على ذلك بما تبصرون وما لا تبصرون.
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ [الحاقة: ٤٠] يقسم الله سبحانه أن هذا القرآن الذي بين أيدينا، قول رسولٍ كريم، ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ﴾ [الحاقة: ٤٠-٤١] أي: كما تفترون وتدعون ﴿وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الحاقة: ٤٢]، أي: تتعظون وتعتبرون، ﴿تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الحاقة: ٤٣].
﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ﴾ [الحاقة: ٤٤]، لو فرض أن محمداً عليه الصلاة والسلام على فرض افترى علينا كلمة واحدة أو قولاً من الأقوال، ونحن لم نقله له، ﴿لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ﴾ [الحاقة: ٤٥].
ومن العلماء من قال: (باليمين) أي: الجارحة، ومنهم من قال: اليمين: القوة، وقوله اليمين؛ لكون اليمين عند العرب أقوى من اليسار، وإن كانت كلتا يدي ربي يمين مباركة، لكن لتقريب المعنى للناس، إذا قلت -ولله المثل الأعلى-: فلان يضربك باليمين، فالضرب باليمين غير الضرب باليسار، فالضرب باليسار ضربٌ ضعيف، بينما الضرب باليمين ضربٌ قوي، ﴿لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ﴾، فهذه الآية فيها التحذير الشديد من الزيادة أو النقصان في كتابه العزيز، وفيها بيان حفظ الله لهذا الكتاب.
والآية الأخرى نحوها: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ﴾ [الإسراء: ٧٣-٧٥]، ضعف العذاب في الحياة، ﴿وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾ [الإسراء: ٧٥]، فالآيات في غاية القوة والتهديد، وبيان حفظ هذا الكتاب العزيز، ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ﴾، لن نتركه أبداً يتقول ويفتري علينا، من الذي تقول على الله وافترى على الله وكانت عاقبته إلى خير؟ أبداً، ما تقول أحدٌ على الله إلا وكانت عاقبته سيئة، ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ [الحاقة: ٤٤-٤٦] أي: أهلكناه.
قال كثيرٌ من أهل العلم: (الوتين) : هو عرق متصل بالقلب بقطعه يموت الإنسان.
﴿فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: ٤٧]، لن يستطيع أحدٌ منكم أن يحجز ذلك ولا يدفعه، ولكن حاشاه صلى الله عليه وسلم، والكلام على الافتراض، وليس معنى الفرض أنه سيحدث، وهي كقوله: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ [الزخرف: ٨١]، أي: أول العابدين لهذا الولد إن كان هناك ولدٌ للرحمن، ولكن هذا فرض لا يقع، ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥]، وهو لن يشرك عليه الصلاة والسلام، ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: ٨٨]، على سبيل الافتراض.
على فرض أنه (تقول علينا بعض الأقاويل) وإلا قد وعدنا بحفظ كتابنا، وتوعدنا بإنزال العقوبة بمن افترى علينا: ﴿لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ﴾، بقوة من غير رفق، ﴿ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: ٤٦-٤٧].


الصفحة التالية
Icon