تفسير قوله تعالى: (إن الأبرار يشربون.)
﴿إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾ [الإنسان: ٥] والأبرار تأتي أحياناً بمعنى عام متسع، وأحياناً تأتي بمعنى خاص: فأحيانا تكون عامة فيدخل فيها أهل الجنة كلهم، سواء المقربون منهم، أو أصحاب اليمين، ومنه قول أهل الإيمان، ﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ﴾ [آل عمران: ١٩٣] فهي عامة.
وأحياناً تأتي الأبرار ويراد بها صنف من أصناف الجنة، فنحن نعلم أن الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف: أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة، والسابقون السابقون أولئك المقربون، ففي الآخرة مقربون، وأصحاب يمين، وهذان الصنفان من أهل الجنة، وصنف ثالث وهم أصحاب المشأمة.
فمن أهل العلم من يقول: إن المراد بالأبرار في هذه الآية التي بين أيدينا أصحاب اليمين، أي: إن أصحاب اليمين ﴿يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا﴾ أي: خليطها كافورا.
﴿إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ﴾ هذه الكأس ليست من مشروب صافٍ، إنما هي من شراب مخلوط بالكافور، وهذا الكافور ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا﴾ أي: يشرب منها (عِبَادُ اللَّهِ) أي: المقربون، فالمراد بعباد الله هنا: المقربون، ﴿يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾ [الإنسان: ٦] وقد تقدم في سورة المطففين ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ [المطففين: ٢٢-٢٤] * ((يُسْقَوْنَ)) أي: الأبرار ﴿مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ﴾ [المطففين: ٢٥] على قول من قال: إن المختوم هو الممزوج ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾ [المطففين: ٢٦-٢٨].
وهنا كذلك ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ﴾ هذه الكأس التي يشرب منها الأبرار كان مزاجها، أي: خليطها، كافورا، فهي مخلوطة بالكافور، والكافور ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ الذين هم المقربون، يشربون من الكافور صرفاً، صافياً خالصاً -غير مخلوط بغيره-.
أما أصحاب اليمين فيشربون الكافور الممزوج بغيره، فكما قال قائل السلف: يشرب منها المقربون صرفاً أي: صافية وتمزج لأصحاب اليمين مزجاً، أي: تخلط لأصحاب اليمين خلطاً، وكمثال تقريبي من حياتنا الدنيا: شاي على لبن، أصحاب اليمين يشربون شاياً مخلوط بلبن، اللبن شراب يشرب منه عباد الله -المقربون- يشربون من اللبن صرفاً، أي: خالصاً صافياً، وأصحاب اليمين يشربون الشاي المخلوط باللبن.
وهنا كذلك: ((إِنَّ الأَبْرَارَ)) الذين هم أصحاب اليمين ﴿يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾ [الإنسان: ٥] أي: خليطها كافور، والكافور: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ أي: يشرب منها، فـ (بها) بمعنى منها، وحروف الجر تتناوب.
﴿يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾ [الإنسان: ٦]، أي: ينتقلون بها إلى حيث شاءوا وتصحبهم إلى حيث أرادوا، أي: إذا انتقلوا إلى مكان في الجنة، وأراد أحدهم أن يفجر هذه العين، فإنها تفجر له هذه العين، فهي ليست مثبتة في مكان، بل هي متنقلة معه إلى حيث أراد، ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾ [الإنسان: ٦] أي: في أي مكان شاءوا أن تنبع لهم هذه العين نبعت لهم.


الصفحة التالية
Icon