تفسير سورة الملك | الآية الثامنة
" تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ " الآية : ٨
*** وقوله ( تكاد تميز من الغيظ ) خبر ثان عن ضمير ( وهي ) مثلت حالة فورانها وتصاعد ألسنة لهيبها و رطمها ما فيها والتهام من يلقون إليها بحال مغتاظ شديد الغيظ لا يترك شيئا مما غاظه إلا سلط عليه ما يستطيع من الأضرار.
*** " تكاد تميز ":
١ – الأثار الواردة :
وأخرج ابن جرير وابن المنذر في قوله :﴿ تكاد تميز ﴾ قال : تتفرق.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله :﴿ تكاد تميز ﴾ قال : يفارق بعضها بعضاً.
٢ – أقوال أهل اللغة :
قال بن منظور: تَمَيَّزَ القومُ وامْتازوا صاروا في ناحية وتَمَيَّزَ من الغَيْظِ تَقَطَّع وفي التنزيل العزيز تَكادُ تَمَيَّزُ من الغَيْظِ.
٣ – أقوال العلماء:
و ( تميز ) أصله تمييز أي تنفصل أي تتجزأ أجزاء تخييلا لشدة الاضطراب بأن أجزاءها قاربت أن تتقطع وهذا كقولهم : غضب فلان فطارت منه شقة في الأرض وشقة في السماء و هذا وصف له بالإفراط في الغضب.
و قال بن عاشور: واستعمل المركب الدال على الهيئة المشبه بها مع مرادفاته كقولهم : يكاد فلان يتميز غيظا ويتقصف غضبا أي يكاد تتفرق أجزاءه فيتميز بعضها عن بعض وهذا من التمثيلية المكنية ونظير هذه الاستعارة قوله تعالى ( فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض) في سورة الكهف إذ مثل الجدار بشخص له إرادة.
*** قال الرازى: " تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ " فإن قيل : النار ليست من الأحياء، فكيف يمكن وصفها بالغيظ قلنا الجواب من وجوه: أحدها : أن البنية عندنا ليست شرطاً للحياة فلعل الله يخلق فيها وهي نار حياة.
وثانيها : أنه شبه صوت لهبها وسرعة تبادرها بصوت الغضبان وحركته.
وثالثها : يجوز أن يكون المراد غيظ الزبانية.
قلت(أبو يوسف): كيفية خلق النار و ماهيتها على التفصيل غير معلومة لنا بل تفاصيل عذابها غير معلوم لنا على وجه الحصر فنسلم بما ورد في الآثار و لا نزيد و لا ننقص.
و قد ورد حديث "اختصمت الجنة و النار........" الحديث فظاهر الحديث يخبرنا عن الجنة و النار كأن لهم صفة يعقلون بها و قال سبحانه "إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا و زفيرا"و هنا أيضا ظاهر الآية يدل على غضب شديد تكاد النار تتقطع منه يجعلها تشهق إذا ألقى فيها الكافرين و تغلي بهم و تشتد.
و لا يكفى مجرد أننا لم نعتاد على هذه الصورة في الدنيا دليلا لإنكارها ووصفها بالمجاز لأن مجموع الأدلة يدل على أن للنار صفة تعقل بها و تتغيظ بها على الكافرين زيادة في عقوبتهم و إن كنا لا ندرى التفاصيل.
و قال سبحانه "إن عرضنا الأمانة على السماوات و الأرض و الجبال فأبين أن يحملنها و أشفقن منها و حملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا" و قد سُمع أنين الجذع لفراق رسول الله صلى الله عليه و سلم.
و لا شك أن ذلك عقوبة فوق العقوبة و بلاء فوق البلاء و عذاب فوق العذاب فالنار وحدها كافية فما بالك بتلك الصفة العظيمة من بعد القعر و الاستعار و الغيظ الذي يجعلها تكاد تتقطع و فورانها بهم و غليانها و اشتدادها بهم و زمجرتها عليهم إذا رأتهم من مكان بعيد
و هل هناك بلاء فوق أن تسلم لعدوك الذي يتغيط عليك أشد الغيظ ؟ و هل هناك عذاب فوق أن يكون عدوك هذا نارا مستعرة متأججة تغلي و تفور ؟ فهي نار محرقة تحترق غيظا على أعداء الله فاللهم أجرنا من النار فوا لله لو سلط الله على الكفار كلابا مسعورة لكان عذابا عظيما فما بالك بنار تكاد تتقطع من الغيظ.
فعذاب الله سبحانه يتضاءل بجواره كل عذاب من عذاب الدنيا.
*** و في إتحاف فضلاء البشر فى القراءات الأربعة عشر :
وقرأ " تكاد تميز " بتشديد التاء وصلا البزي بخلفه وأمال بلى بخلفه وحمزة والكسائي وخلف وبالفتح والصغرى الأزرق وأبو عمرو.
و قال أبو حيان: وقرأ الجمهور :﴿ تميز ﴾ بتاء واحدة خفيفة، والبزي يشدّدها، وطلحة : بتاءين، وأبو عمرو : بإدغام الدال في التاء، والضحاك : تمايز على وزن تفاعل، وأصله تتمايز بتاءين؛ وزيد بن علي وابن أبي عبلة : تميز من ماز من الغيظ على الكفرة، جعلت كالمغتاظة عليهم لشدة غليانها بهم، ومثل هذا في التجوز قول الشاعر:
في كلب يشتد في جريه... يكاد أن يخرج من إهابه
*** و في لسان العرب : الغيْظُ الغَضب وقيل الغيظ غضب كامن للعاجز وقيل هو أَشدُّ من الغضَب وقيل هو سَوْرَتُه وأَوّله.
قلت(أبو يوسف): و المراد هنا الغيظ الذي هو أشد الغضب.
*** قال بن عاشور: و ( كلما ) مركب من ( كل ) اسم دال على الشمول ومن ( ما ) الظرفية المصدرية وهو حرف يؤول مع الفعل الذي بعده بمصدره.
والتقدير : في كل وقت إلقاء فوج يسألهم خزنتها الفوج.
وباتصال ( كل ) بحرف ( ما ) المصدرية الظرفية اكتسب التركيب معنى الشرط وشابه أدوات الشرط في الاحتياج إلى جملتين مرتبة إحداهما على الأخرى.
وجيء بفعلي ( ألقى ) و ( سألهم ) ماضيين لأن أكثر ما يقع الفعل بعد ( كلما ) أن يكون بصيغة المضي بأنها لما شابهت الشرط استوى الماضي والمضارع معها لظهور أنه للزمن المستقبل فأوثر فعل المضي لأنه أخف.
*** " كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير (٨) قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلل كبير" (٩)
أتبع وصف ما يجده أهل النار عند إلقائهم فيها من فضائع أهوالها بوصف ما يتلقاهم به خزنة النار.
فالجملة استئناف بياني أثاره وصف النار عند إلقاء أهل النار فيها إذ يتساءل السامع عن سبب عن وقوع أهل النار فيها فجاء بيانه بأنه تكذيبهم رسل الله الذين أرسل إليهم مع ما انضم إلى من وصف ندامة أهل النار على ما فرط منهم من تكذيب رسل الله وعلى إهمالهم النظر في دعوة الرسل والتدبر فيما جاءهم به.
*** الفوج الجماعة من الناس.
قال بن عاشور: والفوج : الجماعة أي جماعة ممن حق عليهم الخلود وجيء بالضمائر العائدة إلى الفوج ضمائر جمع في قوله (سألهم) الخ لتأويل الفوج بجماعة أفراده كما في قوله ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ).
قلت: و كما كانوا في الدنيا أفواجا و جماعات و شعوب و قبائل يحادون الله و رسوله ففي الآخرة يلقون فيها بالجملة كالقمامة تلقى في القليب لتفور بهم النار هؤلاء أمما كانت قاهرة و حضارات دنيوية متقدمة أغلبهم من العتاة و الجبارين و المتكبرين و منهم الذين لكلمتهم تهتز العروش هؤلاء لا قيمة لهم في الآخرة.
روى البخارى في صحيحه عن سهل قال : مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا قَالُوا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ قَالَ ثُمَّ سَكَتَ فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا قَالُوا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْتَمَعَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا.
فلا ينبغي للمؤمن أن يغتر بكثرة الكافرين و قد قال سبحانه " و إن تطع أكثر من الأرض يضلوك عن سبيل الله" و قال " تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (١٠١) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (١٠٢) [الأعراف : ١٠١، ١٠٢]" و قال سبحانه " لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (١٩٦) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهَادُ (١٩٧) [آل عمران : ١٩٦ - ١٩٨]".
فكثرتهم و تقلبهم في الأرض فتنة و الدليل قائم على أنهم على أعظم الباطل.
و قال تعالى :" لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ" (٣٧)
قال بن الجوزى: قوله تعالى :﴿ ويجعل الخبيث بعضه على بعض ﴾ أي : يجمع بعضه فوق بعض، وهو قوله :﴿ فيركمه ﴾. قال الزجاج : الركم : أن يُجعَل بعضُ الشيء على بعض، يقال : ركمت الشيء أركُمه رَكماً، والركام : الاسم؛ فمن قال : المراد بالخبيث : الكفار، فانهم في النار بعضهم على بعض. اه بتصرف
*** " خَزَنَتُهَا ":
الملائكة الموكل إليهم أمر جهنم وهو جمع خازن للموكل بالحفظ وأصل الخازن : الذي يخزن شيئا أي يحفظه في مكان حصين فإطلاقه على الموكلين مجاز مرسل و هم مالك وأعوانه من الزبانية.
*** " أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ " :
وهو سؤال استنكار و توبيخ و تقريع ليزدادوا حسرة، قال الزجاج : وهذا التوبيخ زيادة لهم في العذاب.
قلت: فكأنه يقولون لهم ما الذي أتى بكم إلى هنا ألم تنذروا هذا العذاب العظيم؟ هل يمكن لعاقل أن يُحذر من مثل هذا ثم يقع فيه؟ ألم يأتكم نذير ؟
قال تعالى حاكيا عن المنافقين قولهم "أنؤمن كما آمن السفهاء" فأجابهم الله "ألا إنهم هم السفهاء و لكن لا يعلمون" فما أبلغ حمق و سفه من حُذر من النار و قامت له البراهين و الحجج على صدق الوحي فكذب و أبى ركونا إلى ما في يده من نعمة الله و كبرا بها على الحق.
*** و هذه المقالة من الملائكة تكرر قال سبحانه "وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (٤٩) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (٥٠)" [غافر : ٥٠، ٥١]
فيمتنع الملائكة من الدعاء لهم و الشفاعة فيهم لهذه العلة فقد بلغتهم الرسالة و قامت عليهم الحجة فلا تنفعهم شفاعة الشافعين و لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا و لو افتدى به.
فكم في تكذيب الرسل من خسران تعرضوا له؟
*** وجملة ( ألم يأتكم نذير ) بيان لجملة سألهم كقوله ( فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد ).
*** والنذير : المنذر أي رسول منذر بعقاب الله.
قال بن عاشور: وهو مصوغ على غير قياس كما صيغ بمعنى المسمع السميع في قول عمرو بن معد يكرب : أمن ريحانة الداعي السميع.
و قال بعضهم: أن النذير قد يطلق على ما في العقول من الأدلة المحذرة المخوفة، ولا أحد يدخل النار إلا وهو مخالف للدليل غير متمسك بموجبه.
قلت(أبو يوسف): و المختار أن النذير هنا الرسول البشري و يشمل ذلك أيضا الحجة الرسالية التي يقيمها أتباع الرسل و ذلك أن تلك اللفظة ذكرها القرآن ثلاثين مرة تقريبا بلفظ (نذير /النذير) و كلها تشير إلي الرسول البشرى باستثناء مرتين " أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) [الملك : ١٧] " قيل في النذير ههنا إنه المنذر، يعني محمداً عليه الصلاة والسلام وهو قول عطاء عن ابن عباس والضحاك، والمعنى فستعملون رسولي وصدقه، لكن حين لا ينفعكم ذلك، وقيل : إنه بمعنى الإنذار، والمعنى فستعلمون عاقبة إنذاري إياكم بالكتاب والرسول و الثانية " هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (


الصفحة التالية
Icon