تفسير سورة الملك | الآية الثانية عشر
" إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ " الآية : ١٢
*** الآثار في الآية:
١ - وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما ﴿ إن الذين يخشون ربهم بالغيب ﴾ قال : أبو بكر وعمر وعلي وأبو عبيدة بن الجراح.
٢ - روى الحاكم في المستدرك : ذكروا عند عبد الله أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم و إيمانهم قال فقال عبد الله : إن أمر محمد كان بينا لمن رآه و الذي لا إله غيره ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ :﴿ الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه ﴾ إلى قوله تعالى ﴿ يؤمنون بالغيب ﴾
قال هذا حديث صحيح على شرط الشيخان و لم يخرجاه ووافقه الذهبي.
٣ - و في المعجم الكبير عن أم نويلة بنت مسلم قالت : صلينا الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا ركعتين ثم جاءنا من يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد استقبل البيت الحرام فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام فحدثني رجل من بني حارثة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :( أولئك رجال آمنوا بالغيب ) قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير وفيه إسحاق بن إدريس الأسواري وهو ضعيف متروك.
٤ – و في أمثال الحديث لأبي الشيخ الاصبهاني حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ أَيُّوبَ، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَسْلَمَ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ (ثقة) يَذْكُرُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" أَنْتُمُ الْيَوْمَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُجَاهِدُونَ فِي اللَّهِ، ثُمَّ تَظْهَرُ فِيكُمُ السَّكْرَتَانِ : سَكْرَةُ الْجَهْلِ، وَسَكْرَةُ حُبِّ الْعَيْشِ، وَسَتُحَوَّلُونَ عَنْ ذَلِكَ، فَلَا تَأْمُرُونَ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تَنْهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ، وَلَا تُجَاهِدُونَ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، الْقَائِمُونَ يَوْمَئِذٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَهُ أَجْرُ خَمْسِينَ صِدِّيقًا ". قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ ؟ قَالَ :" بَلْ مِنْكُمْ " *
٥ - قال صلى الله عليه و سلم :"إن من ورائكم زمان صبر للمتمسك فيه أجر خمسين شهيدا منكم".
صححه الألباني في صحيح الجامع قلت : و زيادة "شهيد" للطبراني و قد روى بدون الزيادة.
*** قال في التحرير: ( إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير) اعتراض يفيد استئنافا بيانيا جاء على سنن أساليب القرآن من تعقيب الرهبة بالرغبة فلما ذكر ما أعد للكافرين المعرضين عن خشية الله أعقبه بما أعد للذين يخشون ربهم بالغيب من المغفرة والثواب للعلم بأنهم يترقبون ما يميزهم عن أحوال المشركين.
*** "إن الذين يخشون ربهم بالغيب" وجهان:
١ - أي الذي أخبروا به من أمر المعاد وأحواله.
٢ - غائبين عن أعين الناس، أي في خلواتهم، كقوله : ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه.
قلت (أبو يوسف) : و الأول أظهر لتكراره غير مرة في القرآن بهذا المعنى "يؤمنون بالغيب" "ليعلم الله من يخافه بالغيب" "ليعلم الله من ينصره و رسله بالغيب" فالمراد في ما سبق التصديق بالوحي و ليس ذلك قاصرا على الخلوات.
و خشية الله بالغيب هي صفة أهل الإيمان و قد بشر الله سبحانه أهل هذه الصفة في موطنين من كتابه هذا أحدهم و الأخر قال تعالى "فبشره بمغفرة و أجر عظيم" فأهل الخشية هم أهل المغفرة و الجنة و ما أعظم بشارة الله.
و في الحديث " " مررت بجبريل ليلة أسري بي بالملإ الأعلى، و هو كالحلس البالي من خشية الله عز وجل " صححه الألباني و قال النبي صلى الله عليه و سلم "والله إني أتقاكم لله وأخشاكم له "صحيح.* و يكفي في شرف الخشية أن الله سبحانه لما وصف حال الكافرين ثم قابله بحال المؤمنين لم يذكرهم بوصف الإيمان إنما ذكرهم بذلك الوصف فكأن هذا الوصف نَاقًَََََََض وصف الكفر و ساوى وصف الإيمان فهي تجمع أغلب معاني الإيمان و هي البذرة التي ينبثق منها الأعمال الصالحة و المواقف الإيمانية.
والكفار رفضوا الإيمان بالغيب رغم قيام الحجج و البراهين الدامغة على صدق الرسل فإنهم إما جحدوها أو أعرضوا عنها والمؤمنين صدقوا المرسلين و سلموا لله و علموا عظمة الله و شدة عقابه فخافوه بالغيب و هذا مقتضى العقل الذي وضعه الله في البشر.
و الخشية عباده كل مؤمن و لكنها أخص بالعلماء قال تعالى " إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) [فاطر : ٢٨] ".
*** قال بن عاشور: وقدم المغفرة تطمينا لقلوبهم لأنهم يخشون المؤاخذة على ما فرط منهم من الكفر قبل الإسلام ومن اللمم ونحوه ثم أعقبت بالبشارة بالأجر العظيم فكان الكلام جاريا على قانون تقديم التخلية أو تقديم دفع الضر على جلب النفع والوصف بالكبير بمعنى العظيم نظير ما تقدم آنفا في قوله ( ان أنتم إلا في ضلال كبير )
وتنكير ( مغفرة ) للتعظيم بقرينة مقارنته ب ( أجر كبير ) وبقرينة التقديم وتقديم المسند على المسند إليه في جملة ( لهم مغفرة ) ليأتي تنكير المبتدأ ولإفادة الاهتمام وللرعاية على الفاصلة وهي نكت كثيرة
*** الله سبحانه واسع المغفرة و هو أهل التقوى و أهل المغفرة و قد ورد ذكر لفظة المغفرة في القرآن سبعة عشر مره اقترنت فيها بذكر الجنة أربعة عشر مرة – وصفت فيها الجنة بأنها أجر كبير في ثلاث مواضع و بأنها أجر عظيم في أربع مواضع و بأنها زرق كريم في أربعة مواضع و بأنها تجرى من تحتها الأنهار في موطن و أن عرضها السماوات و الأرض في موطن و أن عرضها كعرض السماوات و الأرض في موطن – و اقترن ذكرها بأن الله شديد العقاب في موطن "إن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم و إن ربك لشديد العقاب " و بأنه سبحانه ذو عقاب أليم في موطن و اقترن ذكرها بفضل الله في موطن الحث على الصدقة.
و لم يقدم علي المغفرة شيئا قط في أي آية بل دائما تذكر المغفرة أولا حتى قبل الجنة و ذلك في كل المواطن التي ذكرت فيها و النبي صلى الله عليه و سلم لما سألته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن دعاء ليلة القدر فقال صلى الله عليه و سلم :" قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني " و هذه خير ليالي العام فدل ذلك أنه هذا خير ما يدعى به مطلقا فالدعاء بالمغفرة مُقدم على سؤال الجنة بل و مُقدم على كل دعاء و سؤال و أيضا لما ذكر أهل الإيمان بوصف الخشية بشرهم أولا بالمغفرة ثم الجنة.
و روى الحاكم في مستدركه عن سليم بن عامر قال : قال : سمعت أوسط البجلي على منبر حمص يقول : سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : قال : فاختنقته العبرة و بكى ثم قال :"سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم على هذا المنبر يقول عام أول : سلوا الله العفو و العافية و اليقين في الأولى و الآخرة فإنه ما أوتي العبد بعد اليقين خير من العافية ".
قال : هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه و قد روي بغير هذا اللفظ من حديث ابن عباس. و سكت عنه الذهبي.
و لا يعنى هذا ألا يسأل العبد الجنة و الثواب و لكن ليقدم سؤال العافية و المغفرة على أي سؤال أعنى في المنزلة و الله أعلم.
*** وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج رضي الله عنه في قوله :﴿ لهم مغفرة وأجر كبير ﴾ قال : الجنة.
*** عن عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ قال :" يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياماً أربعين سنة، شاخصة أبصارهم، ينتظرون فصل القضاء ". قال :" وينزل الله عز وجل في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي، ثم ينادي مناد : أيها الناس ألم ترضوا من ربكم الذي خلقكم ورزقكم وأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، أن يولي كل أناس منكم ما كانوا يعبدون في الدنيا، أليس ذلك عدلاً من ربكم ؟ ". قالوا : بلى، قال :" فينطلق كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، ويقولون ويقولون في الدنيا ". قال :" فينطلقون ويمثل لهم أشباه ما كانوا يعبدون، فمنهم من ينطلق إلى الشمس، ومنهم من ينطلق إلى القمر والأوثان من الحجارة وأشباه ما كانوا يعبدون ". قال :" ويمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى، ويمثل لمن كان يعبد عزيراً شيطان عزير، ويبقى محمد ﷺ وأمته ". قال :" فيتمثل الرب تبارك وتعالى فيأتيهم فيقول : ما لكم لا تنطلقون كانطلاق الناس ؟ فيقولون : إن لنا لإلهاً ما رأيناه، فيقول : هل تعرفونه إن رأيتموه ؟ فيقولون : إن بيننا وبينه علامة إذا رأيناها عرفناها، قال : فيقول : ما هي ؟ فتقول : يكشف عن ساقه ". قال :" فعند ذلك يكشف عن ساقه فيخر كل من كان نظره، ويبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر يريدون السجود فلا يستطيعون، وقد كانوا يدعون إلى السجود وهو سالمون، ثم يقول : ارفعوا رؤوسكم، فيرفعون رؤوسهم، فيعطيهم نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل العظيم يسعى بين يديه، ومنهم من يعطى نوره أصغر من ذلك، ومنهم من يعطى مثل النخلة بيده، ومنهم من يعطى أصغر من ذلك، حتى يكون آخرهم رجلاً يعطى نوره على إبهام قدميه يضيء مرة ويطفأ مرة، فإذا أضاء قدم قدمه وإذا طفئ قام " قال :" والرب تبارك وتعالى أمامهم حتى يمر في النار فيبقى أثره كحد السيف ". قال :" فيقول : مروا، فيمرون على قدر نورهم، منهم من يمر كطرفة العين، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالسحاب، ومنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشد الفرس، ومنهم من يمر كشد الرحل، حتى يمر الذي يعطى نوره على ظهر قدميه يجثو على وجهه ويديه ورجليه تخر يد وتعلق يد وتخر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، فلا يزال كذلك حتى يخلص، فإذا خلص وقف عليها فقال : الحمد لله فقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً إذ نجاني منها بعد إذ رأيتها " قال :" فينطلق به إلى غدير عند باب الجنة، فيغتسل فيعود إليه ريح أهل الجنة وألوانهم، فيرى ما في الجنة من خلل الباب، فيقول : رب أدخلني الجنة، فيقول الله : أتسأل الجنة وقد نجيتك من النار ؟ فيقول : رب اجعل بيني وبينها حجاباً لا أسمع حسيسها " قال :" فيدخل الجنة ويرى أو يرفع له منزل أمام ذلك، كأن ما هو فيه إليه الحلم، فيقول : رب أعطني ذلك المنزل، فيقول له : لعلك إن أعطيتكه تسأل غيره، فيقول : لا وعزتك لا أسألك غيره، وأنى منزل أحسن منه ؟ فيعطى فينزله، ويرى أمام ذلك منزلاً كأن ما هو فيه إليه حلم، قال : رب أعطني ذلك المنزل، فيقول الله تبارك وتعالى : فلعلك إن أعطيتكه تسأل غيره، فيقول : لا وعزتك يا رب، وأنى منزل يكون أحسن منه ؟ فيعطاه وينزله، ثم يسكت فيقول الله جل ذكره : ما لك لا تسأل ؟ فيقول : رب قد سألتك حتى قد استحييتك، وأقسمت حتى استحييتك، فيقول الله جل ذكره : ألم ترض أن أعطيك مثل الدنيا منذ خلقتها إلى يوم أفنيتها وعشرة أضعافه ؟ فيقول : أتهزأ بي وأنت رب العزة ؟ فيضحك الرب تبارك وتعالى من قوله. قال : فرأيت عبد الله بن مسعود إذا بلغ هذا المكان من هذا الحديث ضحك، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن قد سمعتك تحدث هذا الحديث مراراً، كلما بلغت هذا المكان ضحكت ! قال : إني سمعت