تفسير سورة الملك | الآية الخامسة عشر
"هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ"الآية: ١٥
*** و السياق يحتمل وجهان:
١ – أن الخطاب موجه للخلق عموما مؤمنهم و كافرهم بيانا للقدرة الهائلة و امتنانا بالنعمة العظيمة و تذكيرا للخلق كي يتدبروا فلا يكفروا.
٢ – أن الخطاب موجه للكافرين.
قال الرازي: هذه الآية على سبيل التهديد، ونظيره من قال لعبده الذي أساء إلى مولاه في السر : يا فلان أنا أعرف سرك وعلانيتك فاجلس في هذه الدار التي وهبتها منك، كل هذا الخير الذي هيأته لك ولا تأمن تأديبي، فإني إن شئت جعلت هذه الدار التي هي منزل أمنك ومركز سلامتك منشأ للآفات التي تتحير فيها ومنبعاً للمحن التي تهلك بسببها، فكذا ههنا، كأنه تعالى قال : أيها الكفار اعلموا أني عالم بسركم وجهركم، فكونوا خائفين مني محترزين من عقابي، فهذه الأرض التي تمشون في مناكبها، وتعتقدون أنها أبعد الأشياء عن الإضرار بكم، أنا الذي ذللتها إليكم وجعلتها سبباً لنفعكم، فامشوا في مناكبها، فإنني إن شئت خسفت بكم هذه الأرض، وأنزلت عليها من السماء أنواع المحن.
*** "ذلولا":
والذُّلُّ والذِّلُّ ضد الصعوبة و هو الانقياد و الهوان و اللين.
والذلول من كل شيء : المنقاد الذي يذل لك و يكون في الإِنسان والدابة والذلول من الدواب المنقادة المطاوعة و هو فعول للمبالغة بمعنى فاعل يستوي فيه المذكر والمؤنث و أنكر أبوحيان ما ذكره بن عطية أن يكون فعول بمعنى مفعول أي مذلولة قال : وليس بمعنى مفعول لأن فعله قاصر، وإنما تعدى بالهمزة كقوله :﴿ وتذل من تشاء ﴾ وأما بالتضعيف لقوله :﴿ وذللناها لهم ﴾ وقوله : أي مذلولة يظهر أنه خطأ. اه
و ذلولية الأرض تذليل الانتفاع بها مع صلابة خلقها تشبيها بالدابة المسوسة المروضة بعد الصعوبة.
*** و من مظاهر ذلولية الأرض أمور:
أحدها : أنه تعالى ما جعلها صخرية خشنة بحيث يمتنع المشي عليها، كما يمتنع المشي على وجوه الصخرة الخشنة.
وثانيها : أنه تعالى جعلها لينة بحيث يمكن حفرها، وبناء الأبنية منها كما يراد، ولو كانت حجرية صلبة لتعذر ذلك.
وثالثها : أنها لو كانت حجرية، أو كانت مثل الذهب أو الحديد، لكانت تسخن جداً في الصيف، وكانت تبرد جداً في الشتاء، ولكانت الزراعة فيها ممتنعة، والغراسة فيها متعذرة، ولما كانت كفاتاً للأموات والأحياء.
ورابعها : أنها في إدراكنا ثابتة ساكنة و لو كانت تتحرك و تجرى لشق الأمر علينا مشقة شديدة.
خامسها: أنها خلقت على كيفية جامدة ساكنة لا تتحرك و لا ترتج و لا تضطرب و لا تثور فيها في كل موطن البراكين و الزلازل.
سادسها: أن ما بها و ما فوقها و ما تحتها مسخر للإنسان ينتفع به كيف شاء و متى شاء.
سابعها : رغم أن للأرض كيفية تعقل بها و هى التي أبت بها أن تحمل الأمانة لما عرضت عليها إلا إنها في إدراكنا جماد ساكن لا يتحرك و لا يطالبنا بشيء بل منفعته مباحه لنا بلا ثمن.
و سبحان من سخر الأرض ذلك المخلوق الكبير العظيم الذي يحوى الجبال و الكنوز و البراكين للإنسان ذلك المخلوق الضعيف الهزيل الصغير الذي تكفي ضربة حجر لقتله و الأعجب من ذلك تسخير ما في السماوات أيضا الشمس و القمر و النجوم وينتفع المرء بالسحاب و يحميه الغلاف الأرضي من الشهب و يمسك المياه أن تتبخر في الكون قال تعالى :" أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ " [لقمان : ٢٠]
و الإنسان يعتاد و يألف ما يراه و يسمعه و ما خلق فوجد نفسه فيه و لا يتدبر أن تسخير ما حوله كان بفعل الله منة و نعمة عليه و لو ترك الإنسان و ما حوله لهلك لضعفه و عجزه و أعجب من ذلك أن الإنسان وجد نفسه في هذا الدنيا فلم يخلق نفسه و لم يكن له أي دور في إيجادها و لما جاءته رسالة الرسل بالبراهين الصادقة أنكرها و جحدها و استنكر النشأة الأخرى.
*** الإنسان مخلوق واحد يعيش على وجه الأرض و يوجد معه من المخلوقات ما لا يعلم عدده إلا الله سبحانه و مع ذلك فالأرض مسخرة له كالسيد يحيا عليها و باقي المخلوقات رغم أنها تحيا معه على الأرض إلا أنها تحت قهره و سيطرته إما بالقوة الفعلية أو بالعقل الذي وهبه الله إياه فمكنه به من السيادة على الأرض.
و تخيل كانت الأرض على صورة حي يرهق البشر بالتكاليف لكي يتركهم على ظهره و كذا البحار و الأفلاك و الجبال و الهواء و الماء و غير ذلك.
تخيل لو كانت الأرض كلها جبال و قفار أو براكين و زلازل ماذا سيفعل بن آدم المسكين؟ فإذا تأملت ذلك الحال علمت حقيقة الضعف البشرى و عظمة المنة الإلهية عليه.
*** و تأمل أن الله سبحانه لما ذلل الأرض العظيمة ذلت فوطئها كل أحد و لما سخر الشمس و القمر و الأفلاك ذلوا و خضعوا و لم يخرج منهم أحد عن الناموس الذي وُضع له و بن آدم المتناهي في الصغر لا يتعظ و لا يتدبر و لو تدبر مقدار قدرة الله عليه و أن لو يشاء الله لأخضعه و لكنه يمهله امتحانا له و حلما عليه.
*** و هنا أمر هام يغفل و هو أنه لولا تسخير الله سبحانه للأرض لما استطاع الإنسان أن يصل إلى التقدم و الرقي الذي وصل إليه اليوم فالبعض قد ينظر للحضارة المعاصرة و ينبهر بها غاية الانبهار و لا يلتفت أنه لولا أن الله سبحانه سخر لنا الأرض و ما فيها و مكننا فيها و جعلنا فيها آمنين لما استطاع البشر الوصول لشيء من ذلك.
فكثيرون ينظرون إلى جانب العلم و العمل البشرى فينبهرون إذا رأوا شيئا من المخترعات الحديثة التي تيسر أمرا لم يكن متصورا قبل ذلك و لا ينظرون إلى السيل الجرار من المنن و النعم التي لولا أن الله وهبنا إياها لما وصلنا إلى شيء فالإنسان أعجز من أن يوجد من العدم ذرة فما دونها و لا أقول فما فوقها و الله سبحانه استودع له في هذه الأرض من المنافع الشيء العظيم من المطاعم و المشارب و المواد الخام و المخلوقات العظيمة و الدقيقة و أعطاه المناخ الملائم لحياته و أمنه على ظهر الأرض بما يضمن بقاء نوعه و أسبغ عليه نعمه ظاهرة و باطنه و سخر له ما في السماوات و الأرض و أعطاه العقل.
فجاء الإنسان فاستعمل المادة الخام و العقل الذي وهبه الله إياه و الأمن الذي يحيا فيه و أخذ يكتشف في القوانين الكونية التي فطر الله الأرض عليها فلما جاء بتلك الاكتشافات لم ينظر إلى سابق المنن و النعم بل نظر فقط إلى ذلك الاكتشاف أو الاختراع و تعاظم في نفسه و ليس شأنه أكثر من شأن الطفل الذي يحبو فلما مشى ظن نفسه أقوى الأقوياء و أقدر القادرين و هو لا يعدو كونه طفل يلهو و يلعب.
لذلك يظهر هذا الأمر جليا حينما يرسل الله فيروسا أو ميكروب لا يُرى بالعين المجردة هو أصغر مما يكون فيقهر الله به تلك الغطرسة و يثبت به لإنسان عجزه و حقيقة أمره و أن الخير الذي يحيا فيه بما فيه العلم الذي علمه الله إياه إنما هو محض نعمة و منة من الله سبحانه فلو اقتربت الشمس قليلا من الأرض لأحرقت من فيها و لو هبط نيزك كبير من السماء لأباد أهل الأرض و لو سلط الله سباع الأرض على البشر لما استطاعوا الحياة و لو استطاعوا لكانت في قمة المشقة و لم يستطيعوا أن يصلوا للتقدم و الرقي الذي وصلوا إليه و لولا أن الله استودع الأسباب منافعها و علم بن آدم لما استطاع الانتفاع بالأشياء و صنع ما ينفعه و نسأل الله العافية في الدنيا و الآخرة.
*** "مناكبها":
١ – الآثار:
أ - أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله :﴿ مناكبها ﴾ قال : جبالها.
وأخرج ابن المنذر عن قتادة أن بشير بن كعب(ثقة، من كبار التابعين) قرأ هذه الآية ﴿ فامشوا في مناكبها ﴾ فقال لجاريته : إن دريت ما مناكبها فأنت حرة لوجه الله، قالت : فإن مناكبها جبالها، فسأل أبا الدرداء رضي الله عنه، فقال : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.
ب - و عن ابن عباس وبشر بن كعب و قتادة في قوله :﴿ مناكبها ﴾ قال : أطرافها.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد رضي الله عنه في قوله :﴿ مناكبها ﴾ قال : أطرافها وفجاجها قلت: و كذا رواه أبو حيان عن الحسن والسدي.
٢ – أقوال اللغويين:
قال بن منظور: ومَناكِب الأَرضِ جبالُها وقيل طُرُقها وقيل جَوانِبُها وفي التنزيل العزيز فامْشُوا في مَناكِبها قال الفراء يريد في جوانبها وقال الزجاج معناه في جبالها وقيل في طُرُقها قال الأَزهري وأَشبَهُ التفسير واللّه أَعلم تفسير من قال في جبالها لأَن قوله هو الذي جَعَل لكم الأَرضَ ذَلُولاً معناه سَهَّلَ لَكم السُّلوكَ فيها فأَمكنكم السلوك في جبالها فهو أَبلغ في التذليل والمَنْكِبُ من الأَرض الموضعُ المرتفع.
٣ - أقوال العلماء:
أ – جوانبها و أطرافها:
فالمناكب تخييل للاستعارة لزيادة بيان تسخير الأرض للناس فإن المنكب هو ملتقى الكتف مع العضد جعل المناكب استعارة لأطراف الأرض أو لسعتها.
قال بن عاشور : وجمع المناكب تجريد للاستعارة لأن الذلول لها منكبان والأرض ذات متسعات كثيرة.
وقال الفراء والكلبي ومنذر بن سعيد : جوانبها، ومنكبا الرجل : جانباه، قلت و المقصود : طرقها و أطرافها و جوانبها.
ب- لما شبهت بالبعير في الذلولية استعير وصف المناكب لسهولها و طرقها لأن مناكب البعير أرق ما فيه.
قال الزمخشري : والمشي في مناكبها مثل لفرط التذليل ومجاوزته الغاية، لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير وأنبأه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه، فإذا جعلها في الذل بحيث يمشي في مناكبها لم ينزل. انتهى.
ح – الجبال :
قال الزجاج : سهل لكم السلوك في جبالها فهو أبلغ التذليل. اه
و قيل: وسميت الجبال مناكب، لأن مناكب الإنسان شاخصة والجبال أيضاً شاخصة، والمعنى أني سهلت عليكم المشي في مناكبها، وهي أبعد أجزائها عن التذليل، فكيف الحال في سائر أجزائها.
قلت (أبو يوسف): و المختار أن المقصود السير في طرقها ودروبها و سبلها لأن:
١ - فإن هذا هو الذي تتم به المنة و الأية في سياق الامتنان.
٢ - و الآية تتحدث عن تذليل الأرض و الجبال صعبة فالحمل على السهول و الأودية أولى من الحمل على الجبال و الهضاب.
٣ - الأظهر أن في هذا الموطن أمر بالاكتساب و ابتغاء فضل الله و هو يحصل بالسير في طرق الأرض أبلغ ما يحصل بالسير في الجبال.
٤ – أن هذا يتناسب مع الآيات القرأنية الأخرى التي ذكرت هذه المنه فهي تتحدث عن السير في طرق الأرض.
قال تعالى:"وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجًا (٢٠)" و"الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى (٥٣)"و"وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١)" و"الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠)".
٥ – المنكبين أرق أجزاء البعير الذلول.
و لو قيل إن المعنى أن السير ممكن في جبالها و هي أصعب أجزائها ففيما دون ذلك أسهل و أيسر لكانت المحصلة الن