تفسير سورة الملك | الآية الثانية
"الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور" الآية : ٢
** قال بن عاشور: ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور) صفة ل ( الذي بيده الملك ).
و الآية السابقة ذكرت عموم القدرة و من أعظم ما تظهر فيه القدرة صفة الخلق فذكر سبحانه هنا مخلوقين من أعجب ما يكون بهما قهر الخلق و ظهر ملكه و سلطانه عليهم "كل من عليها فان و يبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام" و هما الموت و الحياة.
و لا يفوت هنا تذكر محاجة إبراهيم صلى الله عليه و سلم للملك "إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي و يميت قال أنا أحيي و أميت" قالها الملك بطرا للحق و هو يعلم أنه مقهور بالموت.
فالله العظيم بيده الموت و الحياة فمن ممن دونه يملك ذلك لنفسه فضلا عن غيره و من ممن يعظم الخلق مهما بلغ من سلطان في الدنيا لا يدخل تحت هذا القهر فاللهم غفرا.
فهذا مدعاة لوضع الأمور في نصابها الصحيح فالله سبحانه رفع بعض الخلق على بعض في الدنيا ابتلاء و ليس هذا الحال الذي ستدوم عليه الأمور و توشك أن تستوي الرؤوس في الآخرة بل لن تستوي فليس المسلمين كالمجرمين قال سبحانه "و الذين اتقوا فوقهم يوم القيامة".
**"خلق الموت و الحياة":
١ – وردت مجموعة من الأثار أن الحياة فرس جبريل و الموت كبش أملح:
*أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : والذي خلق الموت والحياة قال : الحياة فرس جبريل عليه السلام والموت كبش أملح.
*وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن وهب بن منبه قال : خلق الله الموت كبشا أملح مستترا بسواد وبياض له أربعة أجنحة جناح تحت العرش وجناح في الثرى وجناح في المشرق وجناح في المغرب.
* و في روضة المحدثين عن ابن عباس قال : الموت و الحياة جسمان فالموت كبش لا يجد ريحه شىء إلا مات، و الحياة فرس بلقاء أنثى و هى التى كان جبريل و الأنبياء يركبونها لا تمر بشىء و لا يجد ريحها شىء إلا حيى.
قال الحافظ فى " الفتح " : من الأخبار الواهية فى صفة البراق.
*و في تفسير اللباب: روى الكلبي عن ابن عبَّاسٍ : أن الله - تعالى - خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء، ولا يجد رائحته شيء إلاَّ مات، وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء فوق الحمار ودون البَغْل لا تمر بشيء، ولا يجد رائحتها شيء إلا حيي.
قلت: و الكلبي ضعيف لا يحتج به.
و فيه : حكى ابنُ عباس، والكلبي ومقاتلٌ : أن الموت والحياة يجسمان، فالموت في هيئة كبْش لا يمر بشيء، ولا يجد ريحه إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس أنثى بلقاءَ وهي التي كان جبريل والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يركبونها، خطوتُها أمدُ البصر فوق الحمار ودون البغل، لا تمر بشيء يجد ريحاً إلا يحيى، ولا تطأ على شيء إلا حيي، وهي التي أخذ السَّامري من أثرها، فألقاها على العِجْل فحيي.
حكاه الثعلبي والقشيري عن ابن عباس، والماوردي معناه عن مقاتل والكلبي.
**حديث "إذا دخل أهل الجنة الجنة و أهل النار النار يجاء بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة و النار فيقال : يا أهل الجنة هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون فينظرون و يقولون : نعم هذا الموت و كلهم قد رآه ثم ينادى : يا أهل النار هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون فينظرون فيقولون : نعم هذا الموت و كلهم قد رآه فيؤمر به فيذبح و يقال : يا أهل الجنة خلود و لا موت و يا أهل النار خلود و لا موت". صححه الألباني
قال القاضي عياض: ( قال بعض أهل المعاني: واختلاف اللونين في هذا التمثيل يحتمل أنه لاختلاف الحالين، فالبياض لجهة أهل الجنة الذين ابيضت وجوههم، والسواد لأهل النار الذين اسودت وجوههم). اه
و في تحفة الأحوذى: قال القرطبي الحكمة في الإتيان بالموت هكذا الإشارة إلى أنهم حصل لهم الفداء به كما فدى ولد إبراهيم بالكبش
وقال بن العربي استشكل هذا الحديث لكونه يخالف صريح العقل لأن الموت عرض والعرض لا ينقلب جسما فكيف يذبح فأنكرت طائفة صحة هذا الحديث ودفعته وتأولته طائفة فقالوا هذا تمثيل ولا ذبح هناك حقيقة وقالت طائفة بل الذبح على حقيقته والمذبوح متولى الموت وكلهم يعرفه لأنه الذي تولى قبض أرواحهم.
وقال المازري: الموت عندنا عرض من الأعراض وعند المعتزلة ليس بمعنى بل معناه عدم الحياة وهذا خطأ لقوله تعالى خلق الموت والحياة فأثبت الموت مخلوقا وعلى المذهبين لا يصح أن يكون كبشا ولا جسما وأن المراد بهذا التمثيل والتشبيه ثم قال وقد يخلق الله تعالى هذا الجسم ثم يذبح ثم يجعل مثالا لأن الموت لا يطرأ على أهل الاخرة
وقال القرطبي في التذكرة الموت معنى والمعاني لا تنقلب جوهرا وإنما يخلق الله أشخاصا من ثواب الأعمال وكذا الموت يخلق الله كبشا يسميه الموت ويلقى في قلوب الفريقين أن هذا الموت يكون ذبحه دليلا على الخلود في الدارين.
وقال غيره: لا مانع أن ينشئ الله من الأعراض أجسادا يجعلها مادة لها كما ثبت في مسلم في حديث أن البقرة وآل عمران يجيئان كأنهما غمامتان ونحو ذلك من الأحاديث. انتهى
قال صاحب التحفة: هذا القول الأخير هو المعتمد.
٢ – قال أبو حيان : ومعنى ﴿ خلق الموت ﴾ : إيجاد ذلك المصحح وإعدامه، والمعنى : خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون.
قال بن عاشور: ومعنى خلق الحياة : خلق الحي لأن قوام الحي هو الحياة ففي خلقه خلق ما به قوامه وأما معنى خلق الموت فإيجاد أسبابه وإلا فإن الموت عدم لا يتعلق به الخلق بالمعنى الحقيقي ولكنه لما كان عرضا للمخلوق عبر عن حصوله بالخلق تبعا كما في قوله تعالى ( والله خلقكم وما تعملون ).
وأيضا لأن الموت تصرف في الموجود القادر الذي من شأنه أن يدفع عن نفسه ما يكرهه.
والموت مكروه لكل حي فكانت الإماتة مظهرا عظيما من مظاهر القدرة لأن فيها تجلي وصف القاهر
فأما الإحياء فهو من مظاهر وصف القادر ولكن مع وصفه المنعم
فمعنى القدرة في الإماتة أظهر وأقوى لأن القهر ضرب من القدرة
ومعنى القدرة في الإحياء خفي بسبب أمرين بدقة الصنع وذلك من آثار صفة العلم وبنعمة كمال الجنس وذلك من آثار صفة الإنعام.
والمعنى : أنه خلق الموت والحياة ليكون منكم أحياء يعملون الصالحات والسيئات ثم أمواتا يخلصون إلى يوم الجزاء فيجزون على أعمالهم بما يناسبها.
٣ –وقيل : كنى بالموت عن الدنيا، إذ هو واقع فيها، وعن الآخرة بالحياة من حيث لا موت فيها، فكأنه قال : هو الذي خلق الدنيا والآخرة، وصفهما بالمصدرين، وقدّم الموت لأنه أهيب في النفوس.
روى عطاء عن ابن عباس قال : يريد الموت في الدنيا والحياة في الآخرة دار الحيوان.
٤ – قال الرازى: قالوا : الحياة هي الصفة التي يكون الموصوف بها بحيث يصح أن يعلم ويقدر واختلفوا في الموت، فقال قوم : إنه عبارة عن عدم هذه الصفة وقال أصحابنا : إنه صفة وجودية مضادة للحياة واحتجوا على قولهم بأنه تعالى قال :﴿ الذى خَلَقَ الموت ﴾ والعدم لا يكون مخلوقاً هذا هو التحقيق.
٥ - وعن مقاتل :« خَلَقَ المَوْتَ » يعني : النُّطفة والعلقة والمُضغة، وخلق الحياة، يعني خلق إنساناً، ونفخ فيه الروح، فصار إنساناً.
قلت (شريف): و كما قال صاحب التحفة قد ينشئ الله للأعراض أجساما يوم القيامة و لا يلزم من كون الموت يؤتى به يوم القيامة على هيئة كبش أملح أن هذه الكيفية التي خلق عليها فهذا لا يستطيع أحد أن يثبته أو ينفيه إلا بأثر و الأثار الواردة لا حجة فيها إلا الحديث الأخير و كون الموت و الحياة فيما يبدو للخلق أعراض تعرض للخلق و ليست أجسام محسوسة لا ينفى أن يكون له من الكيفية و الخلقه ما نجهله و يعلمه الله فالأولى و الصواب الإيمان بما أوحاه الله سبحانه إلى نبيه و عدم تكلف تأويله و أخذ العبرة المطلوبة منه و عدم القول و الخوض في الدين بغير علم فلو كان ذلك مهما في أمر المعاد لأوضحه الله سبحانه غاية الإيضاح و لكنه كعدد أصحاب الكهف و غير ذلك مما لا نفع في تحقيقه بل المقصود من ذكره العبرة و العظة لا الانشغال بكيفيته و الله أعلم.
قال تعالي في سورة الإسراء :" (٤٨) وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (٥٠) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (٥١)"
قال بعض أهل التفسير :"أو خلقا مما يكبر في صدوركم" قالوا الموت فلو كنتم حجارة أو حديدا أو الموت نفسه لم تعجزوا الله سبحانه أن يبعثكم و يعيدكم و الله لا يعجزه شيء و لا يتعاظمه شيء.
في صحيح البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال : دخلت على النبي صلى الله عليه و سلم وعقلت ناقتي بالباب فأتاه ناس من بني تميم فقال ( اقبلوا البشرى يا بني تميم ). قالوا قد بشرتنا فأعطنا مرتين ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن فقال ( اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم ). قالوا قد قبلنا يا رسول الله قالوا جئناك نسألك عن هذا الأمر قال ( كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض ).
قال بن حجر في الفتح: قوله كان الله ولم يكن شيء غيره في الرواية الآتية في التوحيد ولم يكن شيء قبله وفي رواية غير البخاري ولم يكن شيء معه والقصة متحدة فاقتضى ذلك أن الرواية وقعت بالمعنى ولعل راويها أخذها من قوله صلى الله عليه و سلم في دعائه في صلاة الليل كما تقدم من حديث بن عباس "أنت الأول فليس قبلك شيء" لكن رواية الباب أصرح في العدم وفيه دلالة على أنه لم يكن شيء غيره لا الماء ولا العرش ولا غيرهما لأن كل ذلك غير الله تعالى.
الله الملك هو الأول فليس قبله شيء و لم يكن له كفئا أحد و هو خالق كل شيء فكل ما سواه مخلوق مقهور مربوب خلق الله سبحانه الأجسام و المخلوقات المختلفه فمنها الجماد و منها النبات و منها الأحياء و خلق سبحانه الأعراض التي تعرض لها خلق الموت و الحياة و الصحة و المرض و السعادة و الشقاء و الألم و الراحة و الجوع و الشبع و غير ذلك و لا ندرى كيفية خلق هذه الأعراض و هل لها أجسام لا نعلمها ؟ أم هي كإدراكنا لها مجرد أعراض؟ فلله العلم.
و أحكم الله سبحانه خلقه و أتقنه في كل جزء منه و فرع فترى ألاف الأبحاث فقط حول مخلوق واحد و لا تشمل كل ما فيه و الخلق أعجز من أن يخلقوا ذبابة.
و الزمان شيء و المكان شيء و الله خالق كل شيء فهما مخلوقان و لكن كيفيتهما فهذا تحار فيه الألباب و النهى و ليس فيه أثارة من علم يستدل بها و نحن خلقنا محاطين بهذه الحدود فلا نتصور غيرها و إعمال العقل في ذلك لن يوصل لنافع.
و ليس لنا البحث في ذات الله لحديث "تفكروا في خلق الله و لا تفكروا في الله "حسنه الألباني و لأن ذلك التفكر لن يوصل لشيء لعجز مداركنا و أفهامنا و حواسنا و علمنا عن ذلك فهو في أحسن أحواله مضيعة للوقت إن لم يؤدى للضلال المبين فأهل السنة و الجماعة يثبتون ما ثبت بالأثر و لا يتعرضون للكيفية و لا يزيدون من عند أنفسهم وصفا إلا بدليل فلا ينفون ماجاء به الأثر و لا يكيفون بالعقول القاصرة و هذا أعدل المسالك و أقومها و الله أعلم.
*** و هذه علة الخلق الابتلاء والاختبار ليظهر الأوائل والأفاضل لتتجلى تلك اللحظات الإيمانية الرائعة ليصلي المصلي و يخشع الخاشع و يتدبر المؤمن و يجاهد المجاهد و ي


الصفحة التالية
Icon