تفسير سورة الملك | الآية الحادية و العشرون
"أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو و نفور" الآية: ٢١
*** قال الرازي: والمعنى : من الذي يرزقكم من آلهتكم إن أمسك الله الرزق عنكم، وهذا أيضاً مما لا ينكره ذو عقل، وهذا أنه تعالى لو أمسك أسباب الرزق كالمطر والنبات وغيرهما لما وجد رازق سواه فعند وضوح هذا الأمر قال تعالى :﴿ بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوّ وَنُفُورٍ ﴾ والمراد أصروا وتشددوا مع وضوح الحق، في عتو أي في تمرد وتكبر ونفور، أي تباعد عن الحق وإعراض عنه فالعتو بسبب حرصهم على الدنيا وهو إشارة إلى فساد القوة العملية، والنفور بسبب جهلهم، وهذا إشارة إلى فساد القوة النظرية.
***﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ﴾ :
قال بن عاشور: انتقال آخر والكلام على أسلوب قوله: ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ﴾ [الملك: ٢٠]، وهذا الكلام ناظر إلى قوله: ﴿وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ [الملك: ١٥] على طريقة اللف والنشر المعكوس.
*** قال في التحرير: وضمير ﴿أمسك﴾ وضمير ﴿رزقه﴾ عائدان إلى لفظ ﴿الرحمن﴾ الواقع في قوله: ﴿مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ﴾ [الملك: ٢٠] وجيء بالصلة فعلا مضارعا لدلالته على التجدد لأن الرزق يقتضي التكرار إذ حاجة البشر إليه مستمرة.
قلت (أبو يوسف) : و رزق الله سبحانه للخلق عظيم و كثير ومتنوع و كم من نعمة يحدثها الله للبشر بعد إذ لم تكن و من تأمل فيه وجد أثر اسم الله الرحمن و علم جانبا من ذلك الاسم العظيم.
*** والرزق: ما ينتفع به الناس، ويطلق على المطر، وعلى الطعام و يدخل في الرزق غذاء الأبدان بالقوت و غذاء الأرواح بالوحي و الهداية.
و الطعام رزق و الكساء رزق و الزوجة رزق و الولد رزق و هكذا.
*** "بل":
١ - قال المبرد بل حكمها الاستدراك أينما وقعت في جحد أو إيجاب.
٢ - قال الفراء: بل تأتي لمعنيين:
أ - تكون إضرابا عن الأول وإيجابا للثاني كقولك عندي له دينار لا بل ديناران.
ب - أنها توجب ما قبلها وتوجب ما بعدها وهذا يسمى الاستدراك لأنه أراده فنسيه ثم استدركه.
٣ - قال سيبويه: بل مخفف حرف يعطف بها الحرف الثاني على الأول فيلزمه مثل إعرابه وهو الإضراب عن الأول للثاني كقولك ما جاءني زيد بل عمرو وما رأيت زيدا بل عمرا وجاءني أخوك بل أبوك تعطف بها بعد النفي والإثبات جميعا وربما وضعوه موضع رب كقول الراجز:
بل مهمه قطعت بعد مهمه
يعني رب مهمه كما يوضع الحرف موضع غيره اتساعا
وقال آخر :
بل جوز تيهاء كظهر الحجفت
٤ – و قد تأتي بل بمعنى:
أ - إن في قول بعضهم.
ب – في قطع كلام و استئناف أخر.
قال الأخفش عن بعضهم : وقوله عز وجل "ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق" إن بل ههنا بمعنى إن فلذلك صار القسم عليها قال وربما استعملته العرب في قطع كلام واستئناف آخر فينشد الرجل منهم الشعر فيقول بل ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا ويقول بل وبلدة ما الإنس من آهالها. اهـ
*** قال بن عاشور: و الاستئناف بياني وقع جوابا عن سؤال ناشئ عن الدلائل والقوارع والزواجر والعظات والعبر المتقدمة ابتداء من قوله: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ [الملك: ٢] إلى هنا، فيتجه للسائل أن يقول: لعلهم نفعت عندهم الآيات والنذر، واعتبروا بالآيات والعبر، فأجيب بإبطال ظنه بأنهم لجوا في عتو ونفور.
و ﴿بل﴾:
أ - للاضطراب أو الإبطال عما تضمنه الاستفهامان السابقان.
أو:
ب - الإنتقال من غرض التعجيز إلى الإخبار عن عنادهم.
*** "بل لجوا في عتو و نفور":
أ – الآثار:
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله :﴿ بل لجوا في عتو ونفور ﴾ قال : في الضلال.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله :﴿ بل لجوا في عتو ونفور ﴾ قال : كفور.
ب – لجوا: قال بن منظور: لج في الأمر تمادى عليه وأبى أن ينصرف عنه.
و قيل المعنى : اشتد في النزاع و الخصومة.
ج – "في": الظرفية مجازية.
د - "عتو": العتو الاستكبار و مجاوزة الحد و التجبر و العاتي : الجبار أو الشديد الدخول في الفساد المتمرد الذي لا يقبل الموعظة. انتهى ملخصا من لسان العرب
ه – "نفور": الشرود و الهروب من الشيء و قيل هو : الاشمئزاز من الشيء و الهروب منه.
وقيل : هذا إشارة إلى أصنامهم و ليس بظاهر.
والمعنى: اشتدوا في الخصام متلبسين بالكبر عن اتباع الرسول حرصا على بقاء سيادتهم وبالنفور عن الحق لكراهية ما يخالف أهواءهم وما ألفوه من الباطل.
*** و هذه الآية استمرار لسياق إقامة الحجج البالغة على المعاندين و التي بدأت من أول السورة و في الآية السابقة كان السؤال الجلي :
إذا كنتم مكذبين لله فهل هناك من ينصركم عليه أو هناك من ينصركم غيره؟ على الوجهين في تفسير الآية و الإجابة القاطعة هي : لا يوجد.
و هنا سؤال أخر متضمن لأمور هامة لا بد من الانتباه لها ؟
و هذه الأمور هي :
١ - أنكم ضعفاء فقراء محتاجين لا تقوم حياتكم إلا برزق و إلا هلكتم.
٢ – الله سبحانه هو الرزاق و لا رزاق غيره و هو الذي يرزقكم لتحيوا و إلا لفنيتم.
٣ – أن فقركم و حاجاتكم هذه لا تنقطع و رزق الله لكم مستمر أيضا لم ينقطع.
و السؤال:
ماذا لو أمسك الله سبحانه رزقه و منعكم إياه ؟
هل تستطيعون البقاء بدونه؟
كيف تحاربونه و هو ولي نعمتكم الوحيد و لا غنى لكم عنه؟
إن الجيوش إذا حاربت لا بد لها من مؤن فكيف تحاربونه و هو الذي يرزقكم بفضله و رحمته؟
فالحجة ساطعة فو الله لو ضيق الله سبحانه على الخلق فلم يرزقهم من الطعام إلا صنفا واحدا لشق عليهم ذلك فما بالك بسائر الأرزاق التي يسوقها الله لهم من منافع و مطاعم و مشارب و كساء و علوم و أدوات و أموال وصحة و عافية و نساء و أولاد قال سبحانه :"و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها".
فالله سبحانه لو قطع عنكم رزقه فقط هلكتم بدون حرب و بدون شيء.
فهذه حقيقة أمركم و حقيقة فقركم إليه و عدم استغنائكم لحظة أو دونها عن فضله و رزقه فكيف تجحدونه و هو يطعمكم و يسقيكم و يصححكم و يعافيكم و يمنحكم و يعطيكم فأي كفر فوق كفركم إن كفرتم به و أي سفه و حمق فوق هذا ؟
*** قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " أجملوا في طلب الدنيا فإن كلا ميسر لما خلق له" صححه الألباني.
و قال صلى الله عليه و سلم " لا تستبطئوا الرزق، فإنه لم يكن عبد ليموت حتى يبلغ آخر رزق هو له، فأجملوا في الطلب : أخذ الحلال و ترك الحرام " صححه الألباني.
و هنا إشارة هامة : و هي أن الله سبحانه أباح الميتة للمضطر و أوجب جماهير العلماء على المضطر الذي يغلب على ظنه الهلاك أكلها و أثموه إن لم يفعل – كم نقل شيخ الاسلام بن تيمية في مجموع الفتاوى - فهي هنا من قسم المباح و قد يجب أكلها و ليست من المحرم.
و في تلك الأزمنة الغابرة التي بعدت عن ونور الوحي التي عُبدت فيها الدراهم و الدنانير في كثير من الأماكن و البلاد قد لا يستطيع العائل أن يجد كفايته و كفاية أهله من الحلال المحض لعموم البلوى بانتشار المحرمات و عدم القدرة على إيجاد الحلال المحض و شدة الحاجة فهنا يحتاج الأمر لفتوى في كل حاله فأمور تجوز و أمور تحرم و يستفتى في مثل هذا الحال أهل الاجتهاد من أهل العلم من العلماء الربانين الأثبات و ليس أهل النقل و التقليد.
*** و هنا إشارة لا ينبغي أن نغفلها و هي أن الرزق أمره بيد الله سبحانه وحده لا شريك له و لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه فمن أراد الرزق فليعلم أن أمره بيد واحد فقط و هو الله سبحانه فليطلبه منه و كم فتح الله سبحانه من أرزاق بلا أسباب فأوجد الله أسبابها و كم من أسباب للرزق توفرت فلم تغن عن أصحابها شيئا.
و مثال على ذلك الخليج العربي الذي فجر الله من تحته ينابيع الطاقة فأصبحوا من أغنى بقاع الأرض بلا زراعة و لا صناعة و لا أرض خصبة و لا حتى عمل دؤوب و لا تخطيط لذلك الأمر و هيأ الله لهم من الأسباب ما جعل عدوهم يخشى الانقضاض على ما في أيديهم رغم شدة عداوته و مكره و قوته.
و مثال أخر دول فيها الأراضي الخصبة و الأيدي العاملة و الثروات المعدنية و المصانع و أهلها في ضيق العيش.
و الخلاصة أن أسباب الرزق ليست هي الجالبة له بل أمرنا أن نأخذ بها و لكن الأمر يقضى من السماء و كم من ضعيف مستضعف فقير رفعه الله و كم من غني متكبر قصمه الله و كم من رزق عظيم جاء للمرء في وقت لم يتوقعه فيه و قلت أسبابه و كم من سعي للمرء اشتد فيه و لم يدرك أمره و كم من غافل أعطاه الله و كم من حريص منعه الله و لله الأمر من قبل و من بعد له الرحمة و الحكمة و هو أهل الثناء الحسن نسأله من فضله و رحمته.
و الله يعطى الدنيا لمن أحب و لمن لا يحب و ذلك لحكم عظيمة و مصالح عليا فهو الخالق للجميع المدبر لهم على غاية الحكمة و الرحمة و الكمال فلا تغتر بعطاء المجرمين فإن وراءه حسابا عسيرا.
و ما يخصنا هنا هو أمر المسلمين فإن من أعظم الأسباب الجالبة للرزق الطاعة فكما أسلفنا الرزق بيد الله وحده و رضا الله سبحانه في طاعته فالطاعة من أعظم أسباب جلب الرزق.
*** و هنا وصف دقيق لحال القوم من الملأ المكذبين و لو أراد المرء وصف حالهم لم يستطع أن يأتي بمثل هذا الإيجاز الجامع.
و كم سبق و أسلفنا هذا الوصف ليس حال قوم منهم دون قوم أو أهل مصر دون مصر و لا زمان دون زمان بل هو حال الكافرين عموما صفات رديئة اشتركوا فيها يخبرك عنها رب العالمين فلو تدبرتها تجد أشخاصا وصفوا بدقة يكفي النظر البسيط لتعاينهم في الواقع.
فإياك ثم إياك ثم إياك أن تغتر بحالهم و قد أخبرك الله أمرهم و وصفهم بدقة فمن أبرز أحوالهم أمران:
١ – العتو :
فالقوم متمادين في الكبر و الجبروت و الطغيان و مجاوزة الحد في الفساد يتكبرون على أوامر الله و على أهل الإيمان و يسخرون منهم و يحاربونهم و يمكرون بهم الليل و النهار في السر و الجهر لم يتركوا وسيلة لمحاربة الله سبحانه و رسله و أولياءه إلا اقترفوها منهم من يسب الله سبحانه و رسله الكرام و منهم من يفعل بمن يصل إليه من المؤمنين الأفاعيل و كلهم اجتمعوا على الحقد الأعمى في عداوة دين الله.
ترى الغطرسة في عيونهم و ملامحهم و كلامهم و لهجتهم و لغة حوارهم يستعلون على شرع الله و على المؤمنين و هم الأذلين الأخسرين.
ترى فيهم كبرا بدنياهم فتن به كثير من الخلق و كأنهم استندوا للركن الشديد و هم في الحقيقة اتخذوا أوهن البيوت و أوهن الحصون و الله من ورائهم محيط.
و لو دعوتهم للحق نفروا أشد النفور و كأن عندهم العلم المبين و خبر الأولين و الآخرين و هم في حقيقة أمرهم السفهاء الجاهلين هم أقسي ما يكون على المؤمنين و أخزى ما يكون على من فوقهم في دنياهم و منهم من جمع التكذيب مع فساد الباطن و خبث الطوية (١) فجمع شرا على شر و فسادا على فساد.
هم عبيد الدرهم و الدينار و القطيفة و الخميصة و الكرسي و العصا و هم عبد الطاغوت و مع ذلك هم متكبرين مستعلين بباطلهم قال سبحانه "و انطلق الملأ منهم أن امشوا و اصبروا على ألهتكم إن هذا لأمر يراد" و قال سبحانه حاكيا عن السحرة قبل إسلامهم "فألقوا حبالهم و عصيهم و قالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون" يقول فرعون "أنا ربكم الأعلى" و يقول "ما علمت لكم من إله غيري" "ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين" و يقول "إن هؤلاء لشرذمة قليلون و إنهم لنا لغائظون و إنا لجميع حاذرون".
و انظر إلى ذلك الجبان لما قهره الله قال "آمنت أنه لا إله إلا الذي آم