تفسير سورة الملك | الآية الثانية والعشرون
"أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن من يمشي سويا على صراط مستقيم" الآية : ٢١
*** واعلم أنه تعالى لما وصفهم بالعتو والنفور، نبه على ما يدل على قبح هذين الوصفين والفاء في صدر الجملة للتفريع على جميع ما تقدم من الدلائل والعبر من أول السورة إلى هنا، والاستفهام تقريري.
*** "مكبا":
استعمال اللفظ في الكتاب و السنة:
و في التنزيل:"فكبكبوا فيها هم و الغاوون" الشعراء: ٩٤ و قيل: فيها طرحوا و ألقوا على وجوههم و قيل: ألقي بعضهم على بعض و قيل: نكسوا فيها على رؤوسهم.
و في الحديث الصحيح "وهل يكب الناس على مناخرهم أو على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم ".
و قال تعالى:"ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا" الإسراء:(٩٧)
الآثار:
في الصحيح المسبور :
١ - أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، قوله (مكباً على وجهه) قال : في الضلالة (أم من يمشى سوياً على صراط مستقيم) قال: حق مستقيم.
٢ - أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، قوله (أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى) هو الكافر، أكب على معاصي الله في الدنيا، حشره الله يوم القيامة على وجهه، فقيل: يا نبي الله كيف يحشر الكافر على وجهه؟ قال: إن الذي أمشاه على رجليه قادر أن يحشره يوم القيامة على وجهه.
٣ - أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (يمشي سوياً على صراط مستقيم) قال: المؤمن عمل بطاعة الله، فيحشره الله على طاعته.
انتهى.
٤ - وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما ﴿ أفمن يمشي مكبّاً ﴾ قال : في الضلال ﴿ أمّن يمشي سويّاً ﴾ قال : مهتدياً.
٥ - وأخرج عبد بن حميد وعبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه في قوله :﴿ أفمن يمشي مكباً على وجهه ﴾ قال : هو الكافر عمل بمعصية الله فحشره الله يوم القيامة على وجهه ﴿ أم من يمشي سويّاً على صراط مستقيم ﴾ يعني المؤمن عمل بطاعة الله يحشره الله على طاعته.
٦ - عن الكلبي : عنى به أبو جهل بن هشام. وبالسويّ : رسول الله ﷺ، وقيل : حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه.
أقوال أهل اللغة:
المكب : اسم فاعل من "أكب" و هو غير متعد و "كب" متعد و هو من ضمن أفعال قليلة جاء فيها الفعل المجرد متعديا و المهموز لازما.
قال الواحدي : أكب مطاوع كبه، يقال : كببته فأكب ونظيره قشعت الريح السحاب فأقشع و أنكر ذلك الزمخشري - و هو المختار- و قال:
وما هو كذلك؛ ولا شيء من بناء أفعل مطاوعاً وإنما «أكب» من باب «انفض، وألأم» ومطاوع كب وقشع : انكب وانقشع. انتهى
و الهمزة في "أكب":
للدخول في الشيء أو لإفادة المصير في الشيء مثل همزة: أقشع السحاب، إذا دخل في حالة القشع، ومنه قولهم: أنفض أي دخل في النفض – و هو نفض الوعاء فصار عبارة عن الفقر- و ألأم أي دخل في اللوم.
فالمعني : دخل في الكب، وصار ذا كب.
* المكب:
أ – المعنى: يعثر كل ساعة و يخر.(الكليات للكفومي و مثله في أساس البلاغة)
ب – أكب : نكس و رجل مكب : كثير النظر للأرض.(لسان العرب، تاج العروس، المحكم و المحيط الأعظم(في الشطر الثاني))
ج – أكب على وجهه : انقلب و أكب الرجل: أكثر النظر للأرض.(المعجم الوسيط)
د - ( كَبَبْتُ ) زيدا ( كَبًّا ) أيضا ألقيته على وجهه قال تعالى:( فكُبَّتْ وجوههم في النار ) ( أفمن يمشي مُكِبًّا على وجهه ).(المصباح المنير)
هـ - قال ابن قتيبة : أي : لا يبصر يميناً، ولا شمالاً، ولا من بين يديه.
و – و قال بعض من لا نتشرف بذكرهم: الحيوان على ضربين منتصب ومنحن فالمنتصب الإنسان والمنحنى ما كان رأسه منكوسا إلى جهة الارض كالبهائم والسباع.
قالوا : وإلى ذلك وقعت الاشارة بقوله :(أفمن يمشى مكبا على وجهه أهدى أمن يمشى سويا على صراط مستقيم) قالوا : فأصحاب الشقاوة تنتقل أنفسهم عند الموت إلى الحيوان المكبوب وأصحاب السعادة تنتقل أنفسهم إلى الحيوان المنتصب.(نقله صاحب نهج البلاغة).
أقوال العلماء:
١ – قال الزمخشري:
أ - يمشي معتسفاً (١) في مكان معتاد غير مستو فيه انخفاض وارتفاع، فيعثر كل ساعة فيخر على وجهه منكباً، فحاله نقيض حال من يمشي سوياً، أي : قائماً سالماً من العثور والخرور.
ب - أو مستوي الجهة قليل الانحراف خلاف المعتسف الذي ينحرف هكذا وهكذا على طريق مستو.
ج - ويجوز أن يراد الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق فيعتسف، فلا يزال ينكب على وجهه، وأنه ليس كالرجل السوي الصحيح البصر الماشي في الطريق المهتدي له، وهو مثل للمؤمن والكافر.
٢ - قال ابن كثير: هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، فالكافر مثله فيما هو فيه كمثل من يمشي منكبا على وجهه، أي يمشى منحنيا لا مستويا على وجهه لا يدري أين ولا كيف يذهب بل هو تائه حائر ضال أهذا أهدى (أمن يمشي سويا) أي: منتصب القامة... هذا مثلهم في الدنيا وكذلك يكونون في الآخرة فالمؤمن يحشر يمشي سوياً... وأما الكافر فإنه يحشر يمشى على وجهه إلى نار جهنم. اهـ
٣ – قال السعدي: أي: أي الرجلين أهدى؟ من كان تائها في الضلال، غارقًا في الكفر قد انتكس قلبه، فصار الحق عنده باطلا والباطل حقًا؟ ومن كان عالمًا بالحق، مؤثرًا له، عاملا به، يمشي على الصراط المستقيم في أقواله وأعماله وجميع أحواله؟ فبمجرد النظر إلى حال هذين الرجلين، يعلم الفرق بينهما، والمهتدي من الضال منهما، والأحوال أكبر شاهد من الأقوال.
٤ – قال الشوكاني: والمكبّ والمنكبّ : الساقط على وجهه، يقال : كببته فأكبّ وانكبّ. وقيل : هو الذي يكب رأسه، فلا ينظر يميناً ولا شمالاً ولا أماماً، فهو لا يأمن العثور والانكباب على وجهه. وقيل : أراد به الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق، فلا يزال مشيه ينكسه على وجهه.
٥ – قال القرطبي: قوله تعالى: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) ضرب الله مثلا للمؤمن والكافر مُكِبًّا أي منكسا رأسه لا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله، فهو لا يأمن من العثور والانكباب على وجهه. كمن يمشي سويا معتدلا ناظرا ما بين يديه وعن يمينه وعن شماله. قال ابن عباس: هذا في الدنيا، ويجوز أن يريد به الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق فيعتسف، فلا يزال ينكب على وجهه. وأنه ليس كالرجل السوي الصحيح البصير الماشي في الطريق المهتدى له. وقال قتادة: هو الكافر أكب على معاصي الله في الدنيا فحشره الله يوم القيامة على وجهه.
٦ – قال بن عاشور: والذي انقدح لي: أن التمثيل جرى على تشبيه حال الكافر والمؤمن بحالة مشي إنسان مختلفة وعلى تشبيه الدين بالطريق المسلوكة كما يقتضيه قوله: ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ فلا بد من اعتبار مشي المكب على وجهه مشيا على صراط معوج، وتعين أن يكون في قوله: ﴿مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ﴾ استعارة أخرى بتشبيه حال السالك صراطا معوجا في تأمله وترسمه آثار السير في الطريق غير المستقيم خشية أن يضل فيه، بحال المكب على وجهه يتوسم حال الطريق وقرينة ذلك مقابلته بقوله: ﴿سَوِيّاً﴾ المشعر بأن ﴿مكبا﴾ أطلق على غير السوي وهو المنحني المطاطئ يتوسم الآثار اللائحة من آثار السائرين لعله يعرف الطريق الموصلة إلى المقصود.
فالمشرك يتوجه بعبادته إلى آلهة كثيرة لا يدري لعل بعضها أقوى من بعض وأعطف على بعض القبائل من بعض، فقد كانت ثقيف يعبدون اللات، وكان الأوس والخزرج يعبدون مناة ولكل قبيله إله أو آلهة فتقسم الحاجات عندها واستنصر كل قوم بآلهتهم وطمعوا في غنائها عنهم وهذه حالة يعرفونها فلا يمترون في نهم مضرب المثل الأول، وكذلك حال أهل الإشراك في كل زمان. ألا تسمع ما حكاه الله عن يوسف عليه السلام من قوله: ﴿ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [يوسف: ٣٩]. وينور هذا التفسير أنه يفسره قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: ١٥٣] وقوله: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: ١٠٨]، فقابل في الآية الأولى الصراط المستقيم المشبه به الإسلام بالسبل المتفرقة المشبه بها تعداد الأصنام، وجعل في الآية الثانية الإسلام مشبها بالسبيل وسالكه يدعو ببصيرة ثم قابل بينه وبين المشركين بقوله ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: ١٠٨].
** قال الرازي: ثم اختلفوا فمنهم من قال : هذا حكاية حال الكافر في الآخرة، قال قتادة : الكافر أكب على معاصي الله فحشره الله يوم القيامة على وجهه، والمؤمن كان على الدين الواضح فحشره الله تعالى على الطريق السوي يوم القيامة، وقال آخرون : بل هذا حكاية حال المؤمن والكافر والعالم والجاهل في الدنيا، واختلفوا أيضاً فمنهم من قال : هذا عام في حق جميع المؤمنين والكفار، ومنهم من قال : بل المراد منه شخص معين، فقال مقاتل : المراد أبو جهل والنبي عليه الصلاة والسلام، وقال عطاء عن ابن عباس : المراد أبو جهل وحمزة بن عبد المطلب و عنه : نزلت في أبي جهل والرسول عليه الصلاة والسلام وقال عكرمة هو أبو جهل وعمار بن ياسر.
** قلت (أبو يوسف): لكي نحدد المثال المضروب للكافر بدقة فالسبيل هو فهم المثال المضروب للمؤمن و مفرداته في ضوء الكتاب و السنة.
الآية تصف المؤمن بأنه:
١ – يمشي سويا.
٢ – على صراط مستقيم.
ووصفت الآية الكافر بأنه يمشي مكبا على وجهه.
فلا بد أن يكون مشي الكافر غير سوي و صراطه غير مستقيم.
و هذا الدين هو الصراط المستقيم فهو الطريق المستقيم الوحيد الذي يقود للفلاح في الدنيا و الآخرة.
أخرج الحاكم في مستدركه عن عاصم عن زر عن عبد الله قال : خط رسول الله صلى الله عليه و سلم خطا و خط عن يمين ذلك الخط و عن شماله خطا ثم قال : هذا صراط ربك مستقيما و هذه السبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ :" وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " (٢).
فليس هناك طرق متعددة للفلاح و النجاح و الفوز و السعادة في الدنيا و الآخرة بل هو طريق واحد فمن أخطأه فهو يسير في أحد السبل المتفرقة الأخرى و هي سبل :
أ - معوجة عن الطريق الصحيح لأنها لا تقود إلى سعادة أو فلاح أو فوز حقيقي في الدنيا أو في الآخرة.
ب – غير ممهدة بل وعرة و خبيثة لأنها سبل الفتن و الشياطين، سبل الشبهات و الشهوات، سبل الكفر و الفسوق و العصيان، سبل عبادة غير الله و القتل و الزنا و السرقة و اللواط و الظلم و البغي و غير ذلك.
و كل سبيل فيه من البلاء و الخبث و الوعورة بحسبه و أخبثهم سبيل الكفر فهو الجامع لهم و هم شعب له.
و لتقريب المعنى تأمل في قول الله سبحانه و تعالى :"و لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة و ساء سبيلا" فالزنا أحد هذه الشعب و سبيله بئس السبيل فهو يقود صاحبه للخيانة و يعرضه للمهالك و فوق ذلك كله يعرضه لعقوبة الله سبحانه و غضبه في الدنيا و الآخرة.
فالإسلام الصراط المستقيم وهو جامع لشعب الخير و الكفر شعاب معوجة وعره خبيثة فيها جماع الشر.
و بذلك نكون وصفنا الطريق و بقي وصف السير:
أما المؤمن :
١ - يسير معتدلا مستقيما في طريق مستقيم يقوده للفلاح.
٢ – لا تستعبده شهوة و لا هوى بل هو عبد خالص لله و لو عصى أحيانا لكنه لا يكون أبدا عابدا لغير الله و لا تستعبده كل شهوة و أدنى هوى كالكافر.
٣ – هو واثق من ط