تفسير سورة الملك | الآية الخامسة و العشرون
"ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين" الآية : ٢٥
*** تكررت هذه الآية في الكتاب الكريم ست مرات و السابعة "و يقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين" و أغلب هذه الآيات إن لم يكن كلها جاءت في سياق ذكر حجج الله سبحانه عليهم.
فجاءت الآيات تذكر الحجة عليهم و تذكر حالهم و غيهم الذي فيه يعمهون و المقصود بالوعد القيامة - و سيأتي ذكر الخلاف لاحقا – فالآية تخبرنا خبر المشركين و حالهم رغم حجج الله البينة و براهينه الساطعة و تكرار ذكر هذا الحال في القرآن يدل على ملازمته لهم و أنه من أثبت أوصافهم و أبرز أقوالهم في مواجهة المرسلين و القرآن كتاب بيان فهذه الحال لا تخص قوم و إن نزلت فيهم إنما هو حال عام عبر العصور و البلدان و الشعوب و الثقافات.
و القول يدل على أن الأمر بالنسبة لهم ليس بأمر الحجة و البرهان إنما هو أمر اللجج و الخصومة و التشبث بأي حجة مهما كانت واهية و الإتيان بالفعل المضارع المقتضي للتكرير و صيغة الجمع يدل على اجتماعهم و اتحادهم و استمرارهم على هذه المقالة و هذا العناد و الإنكار.
و ما أشبه قولهم "إن كنتم صادقين " بمقالة أخوة يوسف عليه السلام لأبيهم "و ما أنت بمؤمن لنا و لو كنا صادقين" فهم ألقوا أخيهم في الجب و أذوه و قطعوا رحمه و عقوا أبيهم ثم جاءوا باكين متظلمين يدعون أنهم و لو لم يقصروا سيتهمون.
و تحديد موعد القيامة لا يفيد و لا يضر في الرد على الحجج المفحمة التي ساقتها الآيات و إلا فلو حدد النبي لهم القيامة قريبا فهل كانوا سيؤمنون الأغلب أنهم كانوا سيقولون ننتظر الموعد لنرى صدقه من عدمه و ليس هذا المراد الشرعي منهم أن يؤمنوا عند نزول الآيات إنما المراد منهم الإيمان بالغيب بإعمال العقول في الأدلة و البراهين الجلية فسؤالهم مكابرة و لا ينفع في مقام الحجة.
و حجتهم كحجة الملحد الذي ناظره أحدهم فقال الملحد: أنا لا أؤمن إلا بما أرى، فأجابه الموحد : ألك عقل؟ قال : نعم بالطبع قال : فكيف تصدق أن لك عقلا و لم تره؟
و أنظر لتعميتهم و تلبيسهم في قولهم للرسل الكرام - أصدق الخلق و أبرهم و أشرفهم – :"إن كنتم صادقين" و كأن أمر الرسل مريب و كما أسلفنا شأنهم في أمرهم كشأن أخوة يوسف في مقالتهم فهم الظلمة المتجبرين اللاهثين وراء الدنيا المكابرين الجاحدين للحق و المحاربين للرسل الأبرار قال سبحانه حاكيا عن فرعون "و قال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب (٣٦)أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى و إني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب (٣٧)" (١) فكأنه الباحث عن الحقيقة الصادق البار الذي سينظر في أمر موسى – عليه السلام- رغم غرابته و ظنه في كذبه و قال سبحانه عنه عن قومه :"و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم ظلما و علوا فأنظر كيف كان عاقبة المفسدين" (٢) فظهر بذلك أنه محتال كاذب أفاك أثيم.
** و الخلاصة القوم على أحوال منهم المتكبر الجاحد و منهم طالب المنفعة و الرياسة و منهم الضعيف التابع و منهم من هو مقيم دين الآباء و الأجداد و لو ظهر الحق في غيره و منهم و منهم فبعضهم يعقل و البعض الأخر تابع و لكن اجتمعوا على التكذيب في مقابلة الحجة إما بفهم أو بتقليد أعمى و هذا الحال لازم لهم في كل الأزمان و البلدان فهي نفوس آثرت الباطل لسبب أو لأخر و أصرت عليه رغم الوعيد الشديد.
و الحجج تظهر لهم أو لبعضهم ساطعة و لكنهم آثروا التكذيب و الرد بأدنى شبهة و الاستعلاء و غمز الرسل الكرام و أتباعهم و اتهامهم فضلا عن محاربتهم و الظهور بمظهر الباحثين عن الحق رغم سطوع البينات الباهرة كشمس النهار.
و لو تدبرت تلك المقالة و نظرت في دنيا الناس لرأيتهم بجلاء بأشخاصهم و أسمائهم هم أعداء الرسل الملحدين و هم أعداء السنن المستترين بزى العلم و حجج الشياطين.
فلو رأيتهم مجتمعين و سمعتهم يحتجون و يسوقون أدلتهم ربما اغتررت بهم و كم أضلوا من الخلق و لكن لو سبرت أمرهم و تدبرت كتاب الله لفضح لك أمرهم وكشف لك سترهم و الله أعلى و أعلم.
*** "الوعد":
والوعد مصدر بمعنى اسم المفعول، أي متى هذا الوعد و اختلف فيه على أقوال:
١. أن يراد به الحشر المستفاد من قوله: "وإليه تحشرون" في الآية السابقة فالإشارة إليه بقوله: هذا ظاهرة.
٢. ويجوز أن يراد به وعد آخر بنصر المسلمين، فالإشارة إلى وعيد سمعوه.
٣. المقصود مطلق العذاب و انتصر له الرازي فقال:
اعلم أن قوله :﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً ﴾ إخبار عن الماضي، فمن حمل الوعد في قوله :﴿ وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد ﴾ [ الملك : ٢٥ ] على مطلق العذاب سهل تفسير الآية على قوله فلهذا قال أبو مسلم في قوله :﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً ﴾ يعني أنه لما أتاهم عذاب الله المهلك لهم كالذي نزل بعاد وثمود سيئت وجوههم عند قربه منهم، وأما من فسر ذلك الوعد بالقيامة كان قوله :﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً ﴾ معناه فمتى ما رأوه زلفة، وذلك لأن قوله :﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً ﴾ إخبار عن الماضي وأحوال القيامة مستقبلة لا ماضية فوجب تفسير اللفظ بما قلناه، قال مقاتل :﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً ﴾ أي لما رأوا العذاب في الآخر قريباً.
قلت (أبو يوسف): الأقرب عندي من أقوال أهل العلم أن المراد بالوعد: القيامة و ما وعدوا فيها من الأحداث و الأهوال فلا يمتنع أن يكون مساويا للحشر المذكور في الآية السابقة و ذلك لأن ذلك المعنى مشترك في المواضع التي تكررت فيها هذه الآية بدلالة السياق أما غيره فيحتمل في بعضها و لا يحتمل في البعض الأخر.
أما ما استدل به الرازي من أن فعل "رأوه" الذي سيأتي لاحقا فعل ماضي و أن ذلك دليل على أن المراد أمر مضى فلا يلزم فقد يعبر بالماضي
في أمر مستقبلي كأمر القيامة لتأكيد وقوعه و كأنه وقع و مر و هذا من البلاغة و الفصاحة القرآنية و الله أعلم.
*** والاستفهام بقولهم: "متى هذا الوعد" مستعمل إما في:
١. التهكم لأن من عادتهم أن يستهزئوا بذلك قال تعالى: فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤسهم ويقولون متى هو [الإسراء: ٥١] وأتوا بلفظ الوعد استنجازا له لأن شأن الوعد الوفاء.
٢. إبهاماً للجهال أنه لما لم يتعجل فلا أصل له و إظهارا لأنفسهم في صورة أصحاب الحجة الباحثين عن الحق.
*** وضمير الخطاب في:" إن كنتم صادقين" للنبي ﷺ والمسلمين لأنهم يلهجون بإنذارهم بيوم الحشر أو لسائر الرسل الكرام عليهم السلام و أتباعهم.
*** الفوائد العملية في الآية:
١. تدبر حال القوم - المذكور سابقا بالتفصيل - التدبر المفضي لعدم الاغترار بمقالاتهم.
٢. تعيين أشباههم في الواقع و فهم أن هذا حال متكرر عبر العصور و البلدان.
٣. فهم السنن الكونية في وجود أعداء الرسل هؤلاء المتسترين بستار الحجج الواهية و البراهين الكاذبة.
٤. التدبر في العقوبة العظيمة التي أنذروا بها و الجحود العجيب الذي قابلوها به.
(٢) النمل : ٢٧