تفسير سورة الملك | الآية الثالثة
"الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ" الآية: ٣
*** قال بن عاشور: ( الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفوت فارجع البصر هل ترى من فطور [ ٣ ] ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير [ ٤ ] ) صفة ثانية للذي بيده الملك أعقب التذكير بتصرف الله بخلق الإنسان وأهم أعراضه بذكر خلق أعظم الموجودات غير الإنسان وهي السماوات ومفيدة وصفا من عظيم صفات الأفعال الإلهية ولذلك أعيد فيها اسم الموصول لتكون الجمل الثلاث جارية على طريقة واحدة.
*** و يذكرني ذلك السياق بسياق محاجة إبراهيم (ص) للملك "إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي و يميت قال أنا أحيي و أميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فئت بها من المغرب فبهت الذي كفر و الله لا يهدى القوم الظالمين ".
فاستدل نبي الله إبراهيم أولا بالقدرة على الإحياء و الإماتة ثم تطرق لخلق هذا الكون العظيم الذي يجعل أقوى الأقوياء و أعظم الملوك ينكسر أمام الله و ما الأرض إلا ذرة في ملكه سبحانه.
فهذا هو الطريق الذي يرسمه لنا القرآن من بداية السورة لنتعرف على ربنا :
أولا : أن نعرف أسمائه و صفاته.
ثانيا: نتأمل في مظاهر قدرته و ملكه.
ثالثا: ننظر بعين الاعتبار لهذا الكون العظيم ملكوته العظيم الرحب الفسيح.
فانتبه لهذه القاعدة و أدخل من هذا الباب القرآني العظيم.
*** "طباقا":
١ – طباقاً أي مطابقة بعضها فوق بعض من طابق النعل إذا خصفها طبقاً على طبق، وهذا وصف بالمصدر وصف به على سبيل المبالغة.
أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله : سبع سموات طباقا قال : بعضها فوق بعض وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج مثله.
قال الزجاج معنى طِباقاً مُطْبَقٌ بعضها على بعض.
٢ - أن يكون حذف مضاف و التقدير ذات طباق.
٣ - أن يكون التقدير طوبقت طباقاً.
٤ - وإما جمع طبق كجمل وجمال، أو جمع طبقة كرحبة ورحاب.
قل بن منظور: الطَّبَقُ غطاء كل شيء و طبق كل شيء ما ساواه و قال بن عاشور: والطبق المساوي في حالة ما ومنهم قولهم في المثل " وافق شن طبقة ".
٥ – و في التحرير: والطباق يجوز أن يكون مصدر طابق وصفت به السماوات للمبالغة أي شديدة المطابقة أي مناسبة بعضها لبعض في النظام وأنها متماثلة في بعض الصفات مثل التكوير والتحرك المنتظم في أنفسها وفي تحرك كل واحدة منها بالنسبة إلى تحرك بقيتها بحيث لا ترتطم ولا يتداخل سيرها
قلت (شريف): و الأظهر أن المقصود بعضها فوق بعض لتفسير بن عباس الأية بذلك و الملائمة اللغوية لهذا التفسير و الله أعلم.
*** قال الرازى: قوله :﴿ طِبَاقاً ﴾ صفة للسموات، وقوله بعد ذلك :﴿ مَّا ترى فِى خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت ﴾ صفة أخرى للسموات والتقدير خلق سبع سموات طباقاً ما ترى فيهن من تفاوت إلا أنه وضع مكان الضمير قوله :﴿ خَلْقِ الرحمن ﴾ تعظيماً لخلقهن وتنبيهاً على سبب سلامتهن من التفاوت، وهو أنه خلق الرحمن وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المتناسب.
*** قال في البحر: وما ذكر من مواد هذه السموات فالأولى من موج مكفوف، والثانية من درّة بيضاء، والثالثة من حديد، والرابعة من نحاس، والخامسة من فضة، والسادسة من ذهب، والسابعة من زمردة بيضاء يحتاج إلى نقل صحيح، وقد كان بعض من ينتمي إلى الصلاح، وكان أعمى لا يبصر موضع قدمه، يخبر أنه يشاهد السموات على بعض أوصاف مما ذكرنا.
*** "تفاوت":
١ - وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت قال : ما يفوت بعضه بعضا مفاوت : مفرق.
٢ - وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : من تفاوت قال : تشقق
٣ – قال أبو حيان: قال ابن عباس : من تفرّق.
٤ - وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله : ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت قال : من اختلاف فأرجع البصر هل ترى فطور قال : من خلل ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا قال : صاغرا وهو حسير قال : يعني لا ترى في خلق الرحمن تفاوتا ولا خللا
٥ – قال الرازى: وقال السدّي : من تفاوت أي من اختلاف عيب، يقول الناظر : لو كان كذا كان أحسن.
٦ - وقال عطاء بن يسار : من عدم استواء.
٧ - وقيل : من عدم التناسب والتفاوت، تجاوز الحد الذي تجب له زيادة أو نقص.
قال بعض الأدباء :
تناسبت الأعضاء فيه فلا ترى... بهن اختلافاً بل أتين على قدر
قال الرازى: حقيقة التفاوت عدم التناسب كأن بعض الشيء يفوت بعضه ولا يلائمه ومنه قولهم :( تعلق متعلق متفاوت ونقيضه متناسب ).
٨ - قال القفال : ويحتمل أن يكون المعنى : ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت في الدلالة على حكمة صانعها وأنه لم يخلقها عبثاً.
٩ – قال بن عاشور: والتفاوت بوزن التفاعل : شدة الفوت والفوت : البعد وليست صيغة التفاعل فيه لحصول فعل من جانبين ولكنها مفيدة للمبالغة
ويقال : تفوت الأمر أيضا وقيل : إن تفوت بمعنى حصل فيه عيب.
وهو هنا مستعار للتخالف وانعدام التناسق لأن عدم المناسبة يشبه البعد بين الشيئين تشبيه معقول بمحسوس.
١٠ - وقال ثعلب : أصله من الفوت، وهو أن يفوت شيء شيئاً من الخلل.
١١- التفاوت الفطور بدليل قوله بعد ذلك :﴿ فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ ﴾ نظيره قوله :﴿ وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ﴾ [ ق : ٦ ]
وقيل : من اضطراب.
وقيل : من اعوجاج.
وقيل : من تناقض.
قلت (شريف): و كل ما سبق يدور حول معنى واحد و هو التخالف و انعدام التناسق و الخلل و التناقض و العيب و نحو ذلك.
*** و قد جاء العلم الحديث ليؤكد هذه الحقيقة القرآنية غاية التأكيد فهناك دورة للماء على وجه الأرض و لو اختلت لنقص الماء و هلك الخلق و هناك دورة للهواء لكي تتم تنقيته و يصبح صالحا للتنفس و دورة للطيور و دورة حتى للديدان التي تصيب الإنسان بالأمراض لها دورة حياة منتظمة و أجهزة جسم الأنسان لها ميكانيكية منتظمة في العمل بما يتوافق مع الوظائف التي أعدت من أجلها بل الخلية عبارة عن مصنع متكامل لا يستطيع أعظم خبراء الأرض صياغة مثله بل لا تزال الاكتشافات تظهر يوما بعد فأطنان المؤلفات في العلوم الأرضية تشهد بدقة السنن الكونية و إحكامها على أبدع ما يكون.
فما أعظم أمر دُون في تأكيده مئات الآلاف من الرسالات و الأبحاث و الكتب و المطولات.
ففي الخلية مثلا إعجازات بالغة تكتب فيها المطولات و لا تحصر و الخلايا تكون أنسجة و فيها من الإبداع و التناسق الشيء العظيم و الأنسجة تكون الأعضاء الكاملة التي تكونت من تلك الأنسجة لتؤدى وظيفة حيوية هامة و تلك الأعضاء تتكاتف سويا لتكون الأجهزة الجهاز المناعي و الدورى و التنفسي و الهضمي و العصبي و كل هذه الأجهزة تتحد لتراها أمامك إنسانا سويا معتدل الخلقة و ما ذكرناه في سطور أفنى الأطباء أعمارهم في تفاصيله و لم يبلغوا غوره.
هذا شخص واحد فإذا تأملت خلق الإنسان من ذكر و أنثى و المراحل العمرية و النفسية التي يتدرج فيها لا شك أنك ترى خلقا و تدبيرا عظيما ثم أنظر في حال الأسرة فالعائلة فالعشيرة فالقبيلة فالقرية فالمدينة فالدولة فالقارة فالعالم كيف يدبر كل هذا و يخلق و يكون لكل سنن يسير وفقها لا تتخلف و الإنسان مخلوق من مخلوقات لا يحصيها إلا الله و من شاء من خلقه.
و هناك من التوازنات التي أجراها الله بمنتهى الدقة ما يحفظ لكل قوامه و حياته توازنات بين الأمم يدفع الله بعضهم ببعض كي لا تهدم الصوامع و المساجد و توازنات في جسم الإنسان و عالم الحيوان و البكتريا و غير ذلك مما لا يحصيه و لا يحيط به إلا عالمه.
و هكذا صفة أفعال الله سبحانه الدقة و الإتقان المتناهي و الإحكام التام في الكون و في التدبير و في التشريع و في كل الأمر.
فأنظر هل ترى في خلق الرحمن من تفاوت ثم أرجع البصر هل ترى من فطور ثم أرجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا و هو حسير.
فما أعظم خطأ من يتهم الله في قضاءه و قدره أو يود بقلبه لو دبرت الأمور على غير تلك الكيفية و الله خبير و الله غفور رحيم و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم و عسى أن تحبوا شيئا و هو شر لكم و الله يعلم و أنتم لا تعلمون و نسأله سبحانه العافية في الأمر كله.
*** قال بن عاشور: والمقصود منه التعريض بأهل الشرك إذ أضاعوا النظر والاستدلال بما يدل على وحدانية الله تعالى بما تشاهده أبصارهم من نظام الكواكب وذلك ممكن لكل من يبصر قال تعالى ( أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناهها وما لها من فروج ).
*** "خلق الرحمن":
المقصود السماوات أو يشمل ذلك و ما سواه و الأول أظهر فرغم أنه لا تفوت في شيء من الخلق ولا فطور، لكن قوله تعالى فطور و هي الشقوق يوحي أن المقصود السماوات لذا كان من أحوال بداية القيامة انفطار السماء إيذانا بخراب هذه الدنيا و بداية عهد جديد و يمكن أن يكون في ذلك إشارة لباقي الخلق أنه يسير على نفس الناموس فكل مخلوق جار على غاية الإتقان و الإحكام.
و الإضافه إلى اسمه الرحمن تشعر بأن تلك المخلوقات فيها رحمة بالناس.
و هذا من معانى الرحمة و من معانى اسمه الرحمن التي لا ينتبه إليها : أن خلقه سبحانه جاء على صفة فيها أعظم الرحمة بالمخلوقين فقد أعطاهم ووهبهم ليس فقط ما يكفيهم بل ما يتزينون به و يتجملون من الزينة الظاهرة و الباطنه و لو أخبرك الأطباء عن الميكانيكيات الدفاعية في جسم الإنسان التى تتم في كل أجزاء بدنه و ما يشعر بها قط لرأيت الرحمه و لو نظرت إلى الصفة التى خلق الله الخلق عليها من الجمال الظاهر لتنسمت تلك الرحمة و لو نظرت في الكون الفسيح و جمال الطبيعة البديع حولك لشعرت بتلك الرحمة و لو تأملت معاقا نزعت منه نعمة واحدة من النعم التي حازها أغلب الخلق و تعجزه إعاقته و رأيت حال باقي الخلق لأحسست بتلك الرحمة و أنظر للرحمة التي تكون في قلوب الأباء على أبنائهم كي لا يضيعوا و كلما كان الطفل أصغر كانت رحمة والديه و الأخرين به أعظم رغم أن عمره بينهم قصير لكن رحمة وضعها الله في قلوبهم يرحمه بها و أنظر للشهوة التي جعلها الله في قلوب الرجال و النساء لتكون عونا على المودة و الرحمة التي تبنى عليها البيوت السعيدة كيف أن الجسم يعرق في الحر ليلطف العرق درجة حرارته كيف أن الجسم يفرز إفرازات في الخطر تضاعف قوته ليستطيع النجاة كيف و كيف و كيف فالحديث طويل و بسطه يحتاج لمقام أخر و ذهن صافي و قلب حاضر و في ما ذكرنا كفاية و الله المستعان.
*** أما القراءات الأربعة عشر:
فاختلف في تفوت فحمزة والكسائي بتشديد الواو بلا ألف وافقهما الأعمش والباقون بتخفيفها بعد الألف لغتان كالتعهد والتعاهد وأدغم لام هل ترى أبو عمرو وحمزة والكسائي وهشام في المشهور عنه. اه
قال الفراء : وهما بمنزلة واحدة مثل تظهر وتظاهر، وتعهد وتعاهد، وقال الأخفش :﴿ تفاوت ﴾ أجود لأنهم يقولون : تفاوت الأمر ولا يكادون يقولون : تفوت، واختار أبو عبيدة :﴿ تَفَوت ﴾، وقال : يقال تفوت الشيء إذا فات، واحتج بما روي في الحديث أن رجلاً تفوت على أبيه في ماله.
و قال أبو حيان: وحكى أبو زيد عن العربي : تفاوتاً بضم الواو وفتحها وكسرها، والفتح والكسر شاذان.
*** قال في البحر : والظاهر أن قوله تعالى :﴿ ما ترى ﴾ استئناف أنه لا يدرك في خلقه تعالى تفاوت، وجعل الزمخشري هذه الجملة صفة متابعة لقوله :﴿ طباقاً ﴾، أصلها ما ترى فيهن م


الصفحة التالية
Icon