فالقول بالتشاؤم من دعوة أو من وجه هو خرافة من خرافات الجاهلية. والرسل يبينون لقومهم أنها خرافة وأن حظهم ونصيبهم من خير ومن شر لا يأتيهم من خارج نفوسهم. إنما هو معهم. مرتبط بنواياهم وأعمالهم، متوقف على كسبهم وعملهم. وفي وسعهم أن يجعلوا حظهم ونصيبهم خيرا أو أن يجعلوه شرا. فإن إرادة اللّه بالعبد تنفذ من خلال نفسه، ومن خلال اتجاهه، ومن خلال عمله. وهو يحمل طائره معه. هذه هي الحقيقة الثابتة القائمة على أساس صحيح. أما التشاؤم بالوجوه، أو التشاؤم بالأمكنة، أو التشاؤم بالكلمات.. فهو خرافة لا تستقيم على أصل مفهوم! وقالوا لهم :«أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ؟».. يعني أترجموننا وتعذبوننا لأننا نذكركم! أفهذا جزاء التذكير؟
«بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ».. تتجاوزون الحدود في التفكير والتقدير وتجازون على الموعظة بالتهديد والوعيد وتردون على الدعوة بالرجم والتعذيب! تلك كانت الاستجابة من القلوب المغلقة على دعوة الرسل. وهي مثل للقلوب التي تحدثت عنها السورة في الجولة الأولى وصورة واقعية لذلك النموذج البشري المرسوم هناك.
فأما النموذج الآخر الذي اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب، فكان له مسلك آخر وكانت له استجابة غير هذه الاستجابة :«وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ : يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ. وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؟ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ؟ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ».. إنها استجابة الفطرة السليمة لدعوة الحق المستقيمة. فيها الصدق. والبساطة. والحرارة. واستقامة الإدراك.
وتلبية الإيقاع القوي للحق المبين.
فهذا رجل سمع الدعوة فاستجاب لها بعد ما رأى فيها من دلائل الحق والمنطق ما يتحدث عنه في مقالته لقومه. وحينما استشعر قلبه حقيقة الإيمان تحركت هذه الحقيقة في ضميره فلم يطق عليها سكوتا ولم يقبع في داره بعقيدته وهو يرى