المطلب السادس
المرتبة العليا لفهم القرآن الكريم
وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الْعُلْيَا فَهِيَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِأُمُورٍ :
(أَحَدُهَا) : فَهْمُ حَقَائِقِ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ الَّتِي أُودِعَهَا الْقُرْآنُ بِحَيْثُ يُحَقِّقُ الْمُفَسِّرُ ذَلِكَ مِنَ اسْتِعْمَالَاتِ أَهْلِ اللُّغَةِ، غَيْرَ مُكْتَفٍ بِقَوْلِ فُلَانٍ وَفَهْمِ فُلَانٍ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَلْفَاظِ كَانَتْ تُسْتَعْمَلُ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ لِمَعَانٍ ثُمَّ غَلَبَتْ عَلَى غَيْرِهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَنٍ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ، مِنْ ذَلِكَ لَفْظُ " التَّأْوِيلِ " اشْتُهِرَ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ مُطْلَقًا أَوْ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَلَكِنَّهُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِمَعَانٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى :(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) فَمَا هَذَا التَّأْوِيلُ ؟
يَجِبُ عَلَى مَنْ يُرِيدُ الْفَهْمَ الصَّحِيحَ أَنْ يَتَتَبَّعَ الِاصْطِلَاحَاتِ الَّتِي حَدَثَتْ فِي الْمِلَّةِ ؛ لِيُفَرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ. فَكَثِيرًا مَا يُفَسِّرُ الْمُفَسِّرُونَ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ بِالِاصْطِلَاحَاتِ الَّتِي حَدَثَتْ فِي الْمِلَّةِ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى. فَعَلَى الْمُدَقِّقِ أَنْ يُفَسِّرَ الْقُرْآنَ بِحَسْبِ الْمَعَانِي الَّتِي كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً فِي عَصْرِ نُزُولِهِ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَفْهَمَ اللَّفْظَ مِنَ الْقُرْآنِ نَفْسَهُ بِأَنْ يَجْمَعَ مَا تَكَرَّرَ فِي مَوَاضِعَ مِنْهُ وَيَنْظُرَ فِيهِ، فَرُبَّمَا اسْتُعْمِلَ بِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ كَلَفْظِ " الْهِدَايَةِ " وَغَيْرِهِ، وَيُحَقِّقُ كَيْفَ يَتَّفِقُ مَعْنَاهُ مَعَ جُمْلَةِ مَعْنَى الْآيَةِ فَيَعْرِفُ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبَ مِنْ بَيْنِ مَعَانِيهِ، وَقَدْ قَالُوا : إِنَّ الْقُرْآنَ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّ أَفْضَلَ قَرِينَةٍ تَقُومُ عَلَى حَقِيقَةِ مَعْنَى اللَّفْظِ مُوَافَقَتُهُ لِمَا سَبَقَ مِنَ الْقَوْلِ، وَاتِّفَاقُهُ مَعَ جُمْلَةِ الْمَعْنَى، وَائْتِلَافُهُ مَعَ الْقَصْدِ الَّذِي جَاءَ لَهُ الْكِتَابُ بِجُمْلَتِهِ.
قلت : وأفضل مرجع في ذلك كتب التفسير بالمأثور كالطبري رحمه الله وابن أبي حاتم، وتفسير البغوي وابن كثير والشوكاني، وأجمعها الدر المنثور للإمام السيوطي رحمه الله، مع تحاشي المنكر والواهي في كتابه.


الصفحة التالية
Icon