مصدر واحد لا يتعدد هو هذا الكتاب الذي أنزله اللّه بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه..
وهو كتاب واحد في حقيقته، جاء به الرسل جميعا. فهو كتاب واحد في أصله، وهي ملة واحدة في عمومها، وهو تصور واحد في قاعدته : إله واحد، ورب واحد، ومعبود واحد، ومشرّع واحد لبني الإنسان.. ثم تختلف التفصيلات بعد ذلك وفق حاجات الأمم والأجيال ووفق أطوار الحياة والارتباطات حتى تكون الصورة الأخيرة التي جاء بها الإسلام، وأطلق الحياة تنمو في محيطها الواسع الشامل بلا عوائق.
بقيادة اللّه ومنهجه وشريعته الحية المتجددة في حدود ذلك المحيط الشامل الكبير.
وهذا الذي يقرره القرآن في أمر الكتاب هو النظرية الإسلامية الصحيحة في خط سير الأديان والعقائد..
كل نبي جاء بهذا الدين الواحد في أصله، يقوم على القاعدة الأصيلة : قاعدة التوحيد المطلق.. ثم يقع الانحراف عقب كل رسالة، وتتراكم الخرافات والأساطير، حتى يبعد الناس نهائيا عن ذلك الأصل الكبير. وهنا تجيء رسالة جديدة تجدد العقيدة الأصيلة، وتنفي ما علق بها من الانحرافات، وتراعي أحوال الأمة وأطوارها في التفصيلات.. وهذه النظرية أولى بالاتباع من نظريات الباحثين في تطور العقائد من غير المسلمين، والتي كثيرا ما يتأثر بها باحثون مسلمون، وهم لا يشعرون، فيقيمون بحوثهم على أساس التطور في أصل العقيدة وقاعدة التصور، كما يقول المستشرقون وأمثالهم من الباحثين الغربيين الجاهليين! وهذا الثبات في أصل التصور الإيماني، هو الذي يتفق مع وظيفة الكتاب الذي أنزله اللّه بالحق، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، في كل زمان، ومع كل رسول، منذ أقدم الأزمان.
ولم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه الناس، وأن يكون هناك قول فصل ينتهون إليه. ولم يكن بد كذلك أن يكون هذا الميزان من صنع مصدر آخر