أَلَّفَ الْعَلَّامَةُ الْإِسْفَرَايِينِيُّ كِتَابًا فِي الْفِرَقِ خَتَمَهُ بِذِكْرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمَزَايَاهُمْ، وَعَدَّ مِنْ فَضَائِلِهِمُ الَّتِي امْتَازُوا بِهَا عَلَى سَائِرِ الْفِرَقِ : التِّبْرِيزَ فِي اللُّغَةِ وَآدَابِهَا، وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِأَجْلَى بَيَانٍ. فَأَيْنَ هَذِهِ الْمَزَايَا الْيَوْمَ ؟ وَأَيْنَ آثَارُهَا فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ ؟ بَلْ فَهْمِ مَا دُونَهُ مِنَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ ! وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الْحَاجَةِ فِي التَّفْسِيرِ إِلَى تَحْصِيلِ مَلَكَةِ الذَّوْقِ الْعَرَبِيِّ، وَإِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا فَهْمُ الْقُرْآنِ ا هـ.
أَقُولُ الْآنَ : إِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ حُجَّةُ اللهِ الْبَالِغَةُ عَلَى دِينِهِ الْحَقِّ، فَلَا بَقَاءَ لِلْإِسْلَامِ إِلَّا بِفَهْمِ الْقُرْآنِ فَهْمًا صَحِيحًا، وَلَا بَقَاءَ لِفَهْمِهِ إِلَّا بِحَيَاةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا فِي بَعْضِ بِلَادِ الْأَعَاجِمِ فَإِنَّمَا بَقَاؤُهُ بِوُجُودِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ مِنَ التَّفْسِيرِ مَا يَكْفِي لِرَدِّ الشُّبُهَاتِ عَنِ الْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ، وَبِبَقَاءِ ثِقَةِ الْعَامَّةِ بِهِمْ وَبِمَا يَقُولُونَهُ تَقْلِيدًا لَهُمْ فِيهِ، أَوْ بِعَدَمِ عُرُوضِ الشُّبَهِ لَهُمْ مِنْ دُعَاةِ الْأَدْيَانِ الْأُخْرَى، مَعَ تَأْثِيرِ الْوِرَاثَةِ وَالتَّقْلِيدِ مِنْ قَبِيلِ مَا يُسَمَّى فِي الْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ : بِحَرَكَةِ الِاسْتِمْرَارِ، وَلِهَذَا اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ عَلَى حِفْظِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَنَشْرِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ الْعِلْمُ وَالدِّينُ فِي أَوْجِ الْقُوَّةِ بِحَيَاةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ.
كَانَ جَمِيعُ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ يَشْعُرُ بِأَنَّهُ صَارَ أَخًا لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ أُمَّتَهُ هِيَ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ، لَا الْعَرَبِيَّةُ وَلَا الْفَارِسِيَّةُ وَلَا الْقِبْطِيَّةُ وَلَا التُّرْكِيَّةُ.... كَمَا قَالَ تَعَالَى :(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (٢١ : ٩٢) وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّ وَحْدَةَ الْأُمَّةِ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِوَحْدَةِ اللُّغَةِ، وَلَا لُغَةَ تَجْمَعُ الْمُسْلِمِينَ وَتَرْبُطُهُمْ إِلَّا لُغَةُ الدِّينِ الَّذِي جَعَلَهُمْ بِنِعْمَةِ اللهِ إِخْوَانًا، وَهِيَ الْعَرَبِيَّةُ الَّتِي لَمْ تَعُدْ خَاصَّةً بِالْجِنْسِ الْعَرَبِيِّ إِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْأَجْنَاسِ - الْمُعَبَّرِ عَنْهُمْ فِي اصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِ بِالْأَصْنَافِ - مِنْ جِهَةِ أَنْسَابِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ.
وَلِهَذَا كَانَ يَجْتَهِدُ مُسْلِمُو الْعَجَمِ فِي خِدْمَةِ هَذِهِ اللُّغَةِ كَمَا يَجْتَهِدُ مُسْلِمُو الْعَرَبِ بِلَا فَرْقٍ، وَيَعُدُّونَهَا لُغَتَهُمْ ؛ لِأَنَّهَا لُغَةُ الْقُرْآنِ الَّتِي تَقُومُ بِهَا حُجَّتُهُ : وَهُمْ مِنْ أُمَّةِ الْقُرْآنِ كَالْعَرَبِ بِلَا فَرْقٍ. قَالَ تَعَالَى :(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ


الصفحة التالية
Icon