ولقد تأخذنا في بعض الأحيان مظاهر خادعة لافتراق السنن الكونية، حين نرى أن اتباع القوانين الطبيعية يؤدي إلى النجاح مع مخالفة القيم الإيمانية.. هذا الافتراق قد لا تظهر نتائجه في أول الطريق ولكنها تظهر حتما في نهايته.. وهذا ما وقع للمجتمع الإسلامي نفسه. لقد بدأ خط صعوده من نقطة التقاء القوانين الطبيعية في حياته مع القيم الإيمانية. وبدأ خط هبوطه من نقطة افتراقهما. وظل يهبط ويهبط كلما انفرجت زاوية الافتراق حتى وصل إلى الحضيض عند ما أهمل السنن الطبيعية والقيم الإيمانية جميعا..
وفي الطرف الآخر تقف الحضارة المادية اليوم. تقف كالطائر الذي يرف بجناح واحد جبار، بينما جناحه الآخر مهيض، فيرتقي في الإبداع المادي بقدر ما يرتكس في المعنى الإنساني ويعاني من القلق والحيرة والأمراض النفسية والعصبية ما يصرخ منه العقلاء هناك.. لولا أنهم لا يهتدون إلى منهج اللّه، وهو وحده العلاج والدواء.
إن شريعة اللّه للناس هي طرف من قانونه الكلي في الكون. فإنفاذ هذه الشريعة لا بد أن يكون له أثر إيجابي في التنسيق بين سيرة الناس وسيرة الكون.. والشريعة إن هي إلا ثمرة الإيمان لا تقوم وحدها بغير أصلها الكبير. فهي موضوعة لتنفذ في مجتمع مسلم، كما أنها موضوعة لتساهم في بناء المجتمع المسلم. وهي متكاملة مع التصور الإسلامي كله للوجود الكبير وللوجود الإنساني، ومع ما ينشئه هذا التصور من تقوى في الضمير، ونظافة في الشعور، وضخامة في الاهتهامات، ورفعة في الخلق، واستقامة في السلوك... وهكذا يبدو التكامل والتناسق بين سنن اللّه كلها سواء ما نسميه القوانين الطبيعية وما نسميه القيم الإيمانية.. فكلها أطراف من سنة اللّه الشاملة لهذا الوجود.
والإنسان كذلك قوة من قوى الوجود. وعمله وإرادته، وإيمانه وصلاحه، وعبادته ونشاطه.... هي كذلك قوى ذات آثار إيجابية في هذا الوجود وهي مرتبطة بسنة اللّه الشاملة للوجود.. وكلها تعمل متناسقة، وتعطي ثمارها كاملة


الصفحة التالية
Icon