لقد جاء ﷺ إلى المدينة والأنصار يؤثرون المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وقد أعانهم الله على شح نفوسهم، فمجتمعهم مجتمع بذل وإعطاء وتضحية وإيثار، ومع هذا فقد كان منه ﷺ أن يأتيه الضيف فلا يجد له قرى في بيته، فيقول لأصحابه: "من يضيف هذا، الليلة وله الجنة؟" فيأخذه بعض أصحابه، ويأتيه فقراء المهاجرين يطلبونه ما يحملهم عليه في الجهاد، فيعتذر إليهم أنه لا يجد ما يحملهم عليه، فيتولون وأعينهم تفيض من الدمع حزناً: ألا يجدوا ما يحملهم عليه، ويأتيه القدح من اللبن، فيدعو: يا أهل الصفة. ليشاركوه إياه لقلة ما عندهم، وأبو هريرة يخرج من المسجد فيصرع على بابه من الجوع، بينما العديد من أصحابه ذوو يسار، منهم من يجهز الجيش من ماله، ومنهم من يتصدق بالقافلة كلماة وما فيها، ومنهم من يتصدق بخيار بساتين المدينة ومنهم ومنهم فلم يأخذ قط ولا درهماً واحداً ممن تصدق بقافلة كاملة وما تحمل، لم يأخذ منه درهماً بدون رضاه، ليشارك معه فيه واحداً من أهل الصفة، ولا ممن تصدق ببستانه صاع تمر يعطيه لأبي هريرة، يسد مسغبته، ولا بعيراً واحداً ممن جهز جيشاً من ماله ليحمل عليه متطوعاً في سبيل الله.
إنها أموال محترمة، وأملاك مستقرة خاصة بأصحابها، فهناك غنيمة وفيء أخذ بقوة الأمة ومددها للجيش، جعل في مصارف عامة للأمة وللجيش، وهنا أموال خاصة لم تمس ولم تلمس، إلا برضى نفس وطيب خاطر، ولذا كانوا يجودون ولا يبخلون، ويعطون ولا يشحون، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وكان مجتمعاً متكافلاً مؤتلفاً متعاطفاً وسيأتي زيادة إيضاح لهذا المجتمع عند الكلام على مجتمع المدينة على قوله تعالى؟: ﴿لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَـ؟جِرِينَ﴾، وما بعدها من الآيات إن شاء الله تعالى.