قولهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾ ؛ أي يخالِفُون اللهَ ويَكْذِبُونَهُ وَيَكْذِبُونَ المؤمنين. ويخالفونَهم في ضمائرِهم وهم المنافقونَ. وأصلُ الْخَدَعِ في اللغة الاختفاءُ ؛ ومنهُ قِيْلَ للبيتِ الذي يُخَبَّأُ فيه الْمَتَاعُ : مَخْدَعٌ ؛ فالْمُخَادِعُ يُظهرُ خلافَ ما يُضمرُ. وقال بعضُهم : أصل الْخَدَاعِ في اللغة : الفسادُ. وقال الشاعرُ : أبْيَضُ اللَّوْنِ لَذِيْذٌ طَعْمُهُ طَيِّبُ الرِّيْقِ إذَا الرِّيْقُ خَدَعْأي فَسَدَ، فيكون المعنى : مُفْسِدُونَ ما أظهَروا بألسنتهم مِما أضمَرُوا في قلوبهم. وقيلَ : معناهُ : يخادعونَ رسولَ الله ﷺ كقولهِ تعالى :﴿ فَلَمَّآ آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ ﴾[الزخرف : ٥٥] أي آسَفوا نَبيَّنَا. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾[الأحزاب : ٥٧] أي أولياءَ الله ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لا يؤذَى ولا يُخادَع. وقد يكون المفاعلةُ من واحد كالمسافَرَة.
فإن قِيْلَ : ما وجهُ مخادعتِهم اللهَ ؛ وهو لا يَخفى عليه شيء ؟ وما وجهُ مخادعةِ المؤمنين ومخادعةِ أنفسهم ؟ قيل : المخادعةُ الإخفاءُ، يقال : انخدعَتِ الضَّبيةُ في جُحرها. واللهُ تعالى لا يخادَع في الحقيقةِ، ولكن أطلقَ عليه اسمُ المخادعةِ لَمَّا فعَلُوا فعلَ المخادِعين. ولو كان يصحُّ لَهم خِداعُهم لقالَ : يَخْدَعُونَ اللهَ. وَقِيْلَ : معناهُ : يخادعونَ رسولَ اللهِ.
وأما مخادعةُ المؤمنينَ، فإظهارُهم لَهم الإسلامَ تُقْيَةً ؛ وَقِيْلَ : إظهارُ الإسلامِ لَهم ليكرِمُوهم ويبجِّلوهم. وَقِيْلَ : أظهَروا لَهم ذلك لِيُفْشُوا إليهم سرَّهُم فينقلوهُ إلى أعدائِهم. وأمَّا مخادعةُ أنفُسِهم فضررُ ذلك عليهم. قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم ﴾ ؛ لأنَّ وبالَ الخداعِ عائدٌ إلى أنفسهم فكأنَّهم في الحقيقة إنَّما يخدعونَ أنفسهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ ؛ أي وما يعلمون أنهُ كذلك. والشعرُ : هو العلمُ الدقيقُ الذي يكون حادِثاً من الفطنةِ ؛ وهو من شِعَار القلب ؛ ومنه سُمي الشاعرُ شاعراً لفطنتهِ لما يدقُّ من المعنى والوزنِ، ومنه الشعرُ لدقَّتهِ. ويقال : ما شَعَرْتُ به ؛ أي ما عَلِمْتُ بهِ. وليتَ شِعْرِي ما صنعَ فلانٌ ؛ أي ليتَ عِلْمِي.
واختلف القرَّاءُ في قولهِ تعالى :﴿ وَمَا يَخْدَعُونَ ﴾ فقرأ نافعُ ؛ وابن كثير ؛ وأبو عمرٍو :(يُخَادِعُونَ) بالألفِ. وقرأ الباقون :(يَخْدَعُونَ) بغير ألِف على أشهرِ اللغتين وأفصحِهما ؛ واختارهُ أبو عُبيدٍ. ولا خلافَ في الأول أنه بالألفِ.