قولهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ ؛ أي يجازيهم على استهزائهم فسمَّى الجزاءَ باسمِ الابتداءِ ؛ إذ كان مثلَهُ في الصورة ؛ كقولهِ تعالَى :﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾[الشورى : ٤٠] فسمَّى جزاءَ السيئةِ سيئةً. وقالَ تعالى :﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ ﴾[البقرة : ١٩٤] والثانِي ليس باعتداءٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَمُدُّهُمْ فِي ﴾ أي يُمْهِلُهُمْ ويتركهم في ضلالتِهم يتحيَّرون ؛ يقال : مدَّ في الشَّرِّ ؛ ويَمُدُّ في الخيرِ ؛ وقال يونسُ :(الْمَدُّ التَّرْكُ ؛ وَالإمْدَادُ فِي مَعْنَى الإعْطَاءِ). وقيل : مَدَّهُ وأمدَّه بمعنى واحد. وقال الأخفشُ :(وَيَمُدُّهُمْ) أي يَمُدُّ لَهُمْ ؛ فَحَذَفَ اللاَّمَ). والطغيانُ : مجاوزة الحدِّ ؛ يقال : طَغَى الماءُ إذا جاوزَ حدَّهُ ؛ وقيل لفرعونَ :﴿ إِنَّهُ طَغَى ﴾[طه : ٢٤] أي أسرفَ في الدعوى حيثُ قال :﴿ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى ﴾[النازعات : ٢٤].
وقرأ ابنُ محيصن :(وَيُمِدُّهُمْ) بضم الياءِ وكسرِ الميم ؛ وهما لُغتان. إلا أن الْمَدَّ أكثرُ ما يجيئ في الشرِّ، قال اللهُ تعالى :﴿ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً ﴾[مريم : ٧٩]، والإمدادُ في الخيرِ قال اللهُ تعالى :﴿ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ﴾[نوح : ١٢]، وقالَ تعالى :﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ﴾[المؤمنون : ٥٥]. وَقِيْلَ : معنى ﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ ﴾ أي يوبخهم ويغَبيهم ويُجهِّلُهم. وَقِيْلَ : معناه : الله يُظهِرُ المؤمنين على نفاقهم.
وقال ابنُ عبَّاس :(هُوَ أنْ يُطْلِعَ اللهُ الْمُؤْمِنِيْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُمْ فِي الْجَنَّةِ عَلَى الْمُنَافِقِيْنَ وَهُمْ فِي النَّار، فَيَقُولُونَ لَهُمْ : أتُحِبُّونَ أنْ تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ بَابٌ إلَى الْجَنَّةِ وَيُقَالُ لَهُمْ : ادْخُلُواْ، فَيَأْتُونَ يَتَقَلَّبُونَ فِي النَّارِ، فَإِذَا انْتَهَواْ إلَى الْبَاب سُدَّ عَلَيْهِمْ وَرُدُّواْ إلَى النَّار ؛ وَيَضْحَكُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَـاؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ﴾[المطففين : ٢٩-٣٤].
وعن رسول الله ﷺ أنه قال :" يُؤْمَرُ بنَاسٍ مِنَ الْمُنَافِقِيْنَ إلَى الْجَنَّةِ حَتَّى إذَا دَنَواْ مِنْهَا وَوَجَدُواْ رَائِحَتَهَا وَنَظَرُواْ إلَى مَا أعَدَّ اللهُ لأَهْلِهَا مِنَ الْكَرَامَةِ، نُودُواْ أنِ اصْرِفُوهُمْ عَنْهَا ؛ فَيَرْجِعُونَ بحَسْرَةٍ وَنَدَامَةٍ لَمْ تَرْجِعِ الْخَلاَئِقُ بِمثْلِهَا ؛ فَيَقُولُونَ : يَا رَبَّنَا لَوْ أدْخَلْتَنَا النَّارَ قَبْلَ أنْ تُرِيَنَا مَا أرَيْتَنَا كَانَ أهْوَنَ عَلَيْنَا ؟ فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى : هَذَا الَّذِي أرَدْتُ بكُمْ ؛ هِبْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تَهَابُونِي ؛ أجْلَلْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تُجِلُّونِي ؛ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ النَّاسَ بأَعْمَالِكُمْ خِلاَفَ مَا كُنْتُمْ تُرُونِي مِنْ قُلُوبكُمْ، فَالْيَوْمَ أُذِيْقُكُمْ مِنْ عَذَابي مَا حَرَمْتُكُمْ مِنْ ثَوَابي ".
فإن قِيْلَ : لِمَ أمرَ اللهُ تعالى بقتالِ الكفار المعلنين الكفرَ ولم يأمُرْ بقتالِ المنافقين وهم في الدَّرْكِ الأسفلِ من النار ؛ وخالفَ بين أحكامهم وأحكامِ الكفار الْمُظْهِرِيْنَ الكفرَ وأجراهم مُجْرَى المسلمين في التوارث والأنْكِحَةِ وغيرها ؟ قيل : عقوباتُ الدنيا ليست على قدر الإجرام ؛ وإنَّما هي على ما يعلمُ الله من المصالح ؛ ولِهذا أوجبَ رجمَ الزانِي الْمُحَصَنِ ولَم يُزِل عنهُ الرجمَ بالتوبةِ ؛ والكفرُ أعظم من الزنا ولو تابَ منه قُبلت توبتهُ. وكذلك أوجبَ الله على القاذفِ بالزنا الجلدَ ولَم يوجبه على القاذفِ بالكفرِ ؛ وأوجبَ على شارب الخمر الحدَّ ولَم يوجبه على شارب الدمِ.


الصفحة التالية
Icon