قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً ﴾ ؛ أي مَثَلُ المنافقينَ في إظهارهم الإسلامَ وحَقْنِهم دماءَهم وأموالَهم كمثل رجلٍ في مَفَازَةٍ في ليلة مظلمةٍ يخافُ السِّباع على نفسهِ، فيوقدُ ناراً لِيَأْمَنَ بها السباعَ، ﴿ فَلَمَّآ أَضَآءَتْ ﴾، النارُ، ﴿ مَا حَوْلَهُ ﴾ المستوقد ؛ طُفِئَتْ. فبقي في الظلمةِ ؛ كذلك المنافقُ يخاف على نفسه من قِبَلِ النبيِّ ﷺ وأصحابه فيسلم دماء الناس فيحقنُ دمه، ويناكحُ المسلمين فيكون له نورٌ بمنْزلة نور نار المستوقِدْ ؛ فإذا بلغَ آخرتَهُ لَم يكن لإيْمانهِ أصلٌ في قلبه، ولا حقيقةٌ في عمله، سُلِبَ نورُ الإيْمان عند الموت فيبقى في ظلمةِ الكفر، نَسْتَعِيْذُ باللهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ اسْتَوْقَدَ ﴾ يعني أوقدَ، قال الشاعر : وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيْبُ إلَى النَدَى فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذاكَ مُجِيْبُوقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَمَثَلِ الَّذِي ﴾ بمعنى (الذينَ) دليلهُ سياقُ الآية ؛ ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِي جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾[الزمر : ٣٣]. فإنْ قُلْتَ : كيفَ يجوزُ تشبيهُ الجماعة بالواحد ؟ قُلْتُ : لأن (الَّذِي) اسمٌ ناقصٌ، فيتناولُ الواحدَ والاثنين كـ (مَنْ) و (مَا)، وفي الآيةِ ما يدلُّ على أن معناهُ الجمعَ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَرَكَهُمْ ﴾. وقد يجوزُ تشبيهُ فعلِ الجماعةِ بفعل الواحدِ مثلُ قولهِ تعالى :﴿ أَتَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ﴾[الأحزاب : ١٩]. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَضَآءَتْ ﴾ يقال : ضَاءَ القمرُ يَضُوءُ ضَوْءاً، وَأَضَاءَ يُضِيْءُ إضَاءَةً ؛ وَإضَاءَةً غيرُه يكون لازماً ومتعدِّياً. وقرأ محمَّدُ بن السُّمَيقِعِ :(ضَاءَتْ) بغيرِ ألفٍ ؛ و(حَوْلَهُ) نُصب على الظرفِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ ؛ أي أذهبَ الله نورَهم. وإنَّما قال :(بنُورهِمْ) والمذكورُ في أوَّلِ الآية النارُ ؛ لأنَّ النارَ فيها شيئان : النُّورُ والحرارةُ ؛ فذهبَ نورُهم ؛ وبقِيَ الحرارة عليهم، ﴿ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ﴾.
وفِي بعضِ التفاسيرِ : قال ابنُ عبَّاس ؛ وقتادةُ والضحَّاك :(مَعْنَى الآيَةِ : مَثَلُهُمْ فِي الْكُفْرِ وَنِفَاقُهُمْ كَمَنْ أوْقَدَ نَاراً فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فِي مَفَازَةٍ فَاسْتَضَاءَ بهِ، وَاسْتَدْفَأَ وَرَأَى مَا حَوْلَهُ، فَاتَّقَى مَا يَحْذَرُ وَنَجَا مِمَّا يَخَافُ وَأَمِنَ ؛ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إذْ طُفِئَتْ نَارُهُ ؛ فَبَقِيَ مُظْلِماً خَائِفاً مُتَحَيِّراً ؛ فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ إِذَا أظْهَرُواْ كَلِمَةَ الإيْمَانِ وَاسْتَنَارُواْ بنُورهَا وَاعْتَزُّواْ بعِزِّهَا، فَنَاكَحُواْ الْمُسْلِمِيْنَ وَوَارَثُوهُمْ وَقَاسَمُوهُمُ الْغَنَائِمَ وَأمِنُواْ عَلَى أمْوَالِهِمْ وَأوْلاَدِهِمْ ؛ فَإِذَا مَاتُواْ عَادُواْ فِي الظُّلْمَةِ وَالْخَوْفِ وَبَقَواْ فِي الْعَذَاب وَالنِّقْمَةِ).