قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ ﴾. قالَ الكلبيُّ :" وَذلِكَ أنَّ رَجُلاً وَامْرَأةً مِنْ أشْرَافِ أهْلِ خَيْبَرَ مِنَ الْيَهُودِ فَجَرَا وَكَانَ فِي كِتَابِهِمْ الرَّجْمُ ؛ فَكَرِهُواْ رَجْمَهُمَا لِشَرَفِهِمَا وَرَجَواْ أنْ يَكُونَ لَهُمَا عَنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ رُخْصَةٌ فِي أمْرِهِمَا فِي الرّجْمِ فَيَأْخُذُوا بهِ. فَرُفِعَ أمْرُهُمَا إلَى النَّبيِّ ﷺ فَحَكَمَ عَلَيْهِمَا بالرَّجْمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : جُرْتَ عَلَيْنَا يَا مُحَمَّدُ! فَقَالَ ﷺ :" بَيْنِي وَبَيْنَكُمُ التَّوْرَاةُ، فَمَنْ أعْرَفُكُمْ بهَا " قَالُواْ : ابْنُُ صُوريَّا، فَأَرْسَلُواْ إلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" أنْتَ ابْنُ صُوريَّا ؟ " قَالَ : نَعَمْ، قَالَ :" أنْتَ أعْلَمُ الْيَهُودِ ؟ " قَالَ : كَذلِكَ يَزْعُمُونَ. فَدَعَا رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئاً مِنَ التَّوْرَاةِ فِيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ - دَلَّهُ عَلَى ذلِكَ ابْنُ سَلاَمٍ - فَقَالَ لابْنِ صُوريَّا : إقْرَأ ؛ فَلَمَّا أتَى عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ فَوَضَعَ كَفَّهُ عَلَيْهَا ؛ ثُمَّ قَامَ ابْنُ سَلاَمٍ وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ ؛ قَدْ جَاوَزَهَا وَوَضَعَ كَفَّهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَامَ ابْنُ سَلاَمٍ فَرَفَعَ كَفَّهُ عَنْهَا، وَقَرَأَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ :(الْمُحَصَنُ وَالْمُحْصَنَةُ إذا زَنَيَا وَقَامَتْ عَلَيْهِمَا الْبَيِّنَةُ ؛ فَيُسْأَلُ عَنِ الْبَيِّنَةِ، فَإنْ كَانُوا عُدُولاً رَجَمَ، وَإنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ حُبْلَى يُتَرَبَّصُ بهَا حَتَّى تَضَعَ مَا فِي بَطْنِهَا). فَأَمَرَ بهِمَا رَسُولُ اللهِ ﷺ برَجْمِهِمَا فَرُجِمَا، فَغَضِبَتِ الْيَهُودُ لِذَلِكَ غَضَباً شَدِيْداً وَرَجَعُواْ كُفَّاراً " فذلك قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ ﴾ معناهُ : ألَمْ تعلَمْ يا مُحَمَّدُ بالذينَ أعْطُوا حَظاًّ من التوراةِ.
وقَوْلُهُ :﴿ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ ﴾ قال ابنُ عبَّاس :(هُوَ التَّوْرَاةُ دُعِيَ إلَيْهَا الْيَهُودُ فَأَبَواْ لِعِلْمِهِمْ بلُزُومِ الْحُجَّةِ، وَأَنَّ فِيْهِ الْبشَارَةَ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم). وقال الحسنُ وقتادة :(أرَادَ بهِ الْقُرْآنَ، فَإنَّهُمْ دُعُوا إلَى الْقُرْآنِ لِمُوافَقَتِهِ التَّوْرَاةَ فِي أصُولِ الدِّيَانَةِ). وعن الضحَّاك في هذهِ الآية :(أنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ الْقُرْآنَ حَكَماً بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ ﷺ ؛ فَحَكَمَ الْقُرْآنُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بأنَّهُمْ عَلَى غَيْرِ الْهُدَى فَأَعْرَضُوا). وقال قتادةُ :(هُمُ الْيَهُودُ دُعُوا إلَى حُكْمِ الْقُرْآنِ وَاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ ﷺ ؛ فَأَعْرَضُواْ وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي كُتُبهِمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ ﴾ أي يُعْرِضُ ؛ جمعٌ كُثْرٌ منهم من الدَّاعي وهم مُعْرِضُونَ عن العمل بالمدعوِّ إليه، وقيلَ : معناهُ : ثُمَّ يَتَولَّى فَرِيْقٌ مِنْهُمْ بعد عِلمهم أنَّها في التوراةِ، وإنَّما ذكرَ الإعراضَ بعد التولِّي ؛ لأن الإنسانَ قد يُعْرِضُ عن الدَّاعي ويتأمَّلُ ما دَعَاهُ إليه فينكرُ أنه حقٌّ أو باطل، وهم لَمْ يتأمَّلوا ولم يتفكَّروا فيما دعوا إليه.