قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي عَبْدِاللهِ بْنِ أبَيٍّ وَأصْحَابهِ الْمُنَافِقِيْنَ ؛ كَانُواْ مَعَ إظْهَارِهِمُ الإيْمَانَ يَتَوَلُّوْنَ الْيَهُودَ وَيَأْتِيْهِمْ بأخْبَار الْمُؤْمِنِيْنَ، وَيَرْجُونَ أنْ يَكُونَ لَهُمْ الظَّفْرُ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ ؛ فَأَنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ يَنْهَى الْمُؤْمِنِيْنَ عَنْ مِثْلِ فِعْلِهِمْ، وَيَنْهَى الْمُنَافِقِيْنَ أيْضاً ؛ أيْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنَ، فَلاَ تَتَّخِذ الْكُّفَّارَ أوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِيْنَ).
وقالَ الضحَّاك عنِ ابن عبَّاس :(نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ؛ وَكَانَ بَدْرِيّاً نَقِيْباً ؛ وَكَانَ لَهُ حُلَفَاءَ مِنَ الْيَهُودِ، فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ يَوْمَ الأحْزَاب ؛ قَالَ عُبَادَةُ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ إنَّ مَعِي خَمْسُمِائَةِ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ ؛ وَقَدْ رَأْيْتُ أنْ يَخْرُجُواْ مَعِي فَأسْتَظْهِرُ بهِمْ عَلَى الْعَدُوِّ، فَأَنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ﴾ ؛ أي مَن يوالِيهم في نقل الأخبار إليهم وإظهارهم على عَوْرَةِ المسلمين، فليس مِن الله في شيء. قال السديُّ :(فَلَيْسَ مِنَ الْوِلاَيَةِ فِي شَيْءٍ، فَقَدْ بَرِئَ اللهُ مِنْهُمْ). كَمَا قاَلَ اللهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أخْرَى :﴿ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾[المائدة : ٥١] معنى أنَّ وَلِيَّ الكافرِ راضٍ بكفرهِ، والرِّضَى بالكفرِ كفرٌ، قَالَ رسولُ الله ﷺ :" أَنَا بَرِئٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ "
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـاةً ﴾ ؛ أي إلاَّ أن يُحصَرَ المؤمن في أيدي الكفَّار يخافُ على نفسِه فيداهِنُهم فيرضيهم بلسانهِ وقلبُهُ مطمئنٌّ بالإيْمان فهو مُرَخَّصٌ له في ذلكَ، كما رُوِيَ : أنَّ مُسَيْلَمَةَ الْكَذابَ لَعَنَهُ اللهُ أخَذ رَجُلَيْنِ مِنْ أصْحَاب رَسُولِ اللهِ ﷺ ؛ فَقَالَ لأحَدِهِمَا : أتَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ، وَقَالَ لِلآخَرِ : أتَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ، قَالَ : أتَشْهَدُ أنِّي رَسُولُ اللهِ ؟ قال : إنِّي أصَمٌّ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ السُّؤَالَ ثَلاَثاً، فَأَجَابَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ هَذا الْجَوَاب، فَضَرَبَ مُسَيْلَمَةُ عُنُقَهُ، فَبَلَغَ ذلِكَ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقَالَ :" أمَّا الْمَقْتُولُ فَمََضَى عَلَى صِدْقِهِ وَيَقِيْنِهِ فَهَنِيْئاً لَهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَقَبلَ رُخْصَةَ اللهِ فَلاَ تَبعَةَ عَلَيْهِ "
فمعنى الآيةِ : إلاَّ أن تَخافوا منهم مخافةً. قرأ الحسنُ والضحَّاك ومجاهد :(تَقِيَّةً). وقرأ حمزةُ والكسائيُّ بالإمالةِ. وقرأ الباقون بالتفخُّم، فكلُّ ذلك لغاتٌ فيها، ومعناهُ واحد.
قوله تعالى :﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ ؛ أي يخوِّفُكم عقوبتَه وبطشَهُ على موالاةِ الكفَّار وارتكاب المنهيِّ عنه. وقال الزجَّاج :(مَعْنَاهُ : وَيُحَذِّرُكُمْ اللهُ إيَّاهُ). وَخَاطَبَ اللهُ العبادَ على قدر عملهم وعقلِهم، ومعنى قولهِ تعالى :﴿ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي ﴾[المائدة : ١١٦] أي تعلمُ حقيقةَ ما عندي ولا أعلمُ حقيقةَ ما عندكَ. قوله تعالى :﴿ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾، زيادةٌ في الإبعادِ وتذكيرٌ بالمعادِ ؛ أي إنْ فعلتُم ما نَهيتُكم عنه فمرجعكم إلَيَّ.