قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ ؛ لَمَّا نزلت الآياتُ المتقدِّمة قالتِ اليهودُ : نحنُ أبناءُ اللهِ واحبَّاؤُه، وإنَّما يقولُ الله مثلَ هذه الآياتِ في أعدائه، وأرادوا بقولهِ أحبَّاؤُه : نُحِبُّهُ وَيُحِبُّنَا ؛ فأنزلَ اللهُ هذه الآية.
والْمَحَبَّةُ : في الحقيقةِ هي الإرادةُ، وهو أن تريدَ نَفْعَ غيرك فيبلُغَ مرادَه في نفعك إيَّاهُ، وأما الْعِشْقُ : وهو إفراطُ الْمَحَبَّةِ في هذا المعنى. وأما مَحَبَّةُ الطعامِ والملاذِ ؛ فهو شهوةٌ وتَوَقَانُ النفسِ. وأما مَحَبَّةُ العباد للهِ تعالى، فاللهُ يستحيلُ عليه المنافع، فلا يصحُّ أن يرادَ بمُحِبهِ هذه الطريقة لكي يراد بها إعظامُه وإجلاله وطاعتهُ ومحبَّة رسلهِ وأوليائِه، ومحبَّة الله إيَّاهم إثابتهُ إياهم على طاعتِهم ؛ وإنعامهُ عليهم ؛ وثناؤُه عليهم ؛ ومغفرَتُه لهم.
ومعنى الآيةِ : إنْ كُنتُم تحبُّون طاعةَ الله والرضا بشرائعهِ فاتَّبعونِي على دينِي يَزِدْكُمُ اللهُ حُبّاً، ﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ ؛ في اليهوديَّة ؛ ﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
وروى الضحَّاك عن ابنِ عبَّاس وقال :" وَقَفَ النَّبيُّ ﷺ عَلَى قُرَيْشٍ وَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَقَدْ نَصَبُواْ أصْنَامَهُمْ، وَعَلَّقُوا عَلَيْهَا بَيْضَ النَّعَامِ، وَجَعَلُواْ فِي آذَانِهَا الشُّنُوفَ وَهُمْْ يَسْجُدُونَ لَهَا، فَقَالَ ﷺ :" يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ؛ وَاللهِ لَقَدْ خَالَفْتُمْ مِلَّةَ أبيْكُمْ إبْرَاهِيْمَ " وَقَالَتْ قُرَيْشُ : إنَّمَا نَعْبُدُ هَذِهِ حُبّاً للهِ لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللهِ زُلْفَى ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ " أي قُلْ لَهُمْ يا مُحَمَّدُ ﷺ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبعُونِي يُحْبْكُمُ اللهُ، فَأَنَا رسولُ اللهِ إليكم، وحجَّتُه عليكم، وأنا أوْلَى بالتعظيمِ من أصْناَمِكُمْ. فلما نزلَتْ هذهِ الآيَةُ عرضَها عليهم فلم يقبَلُوا.
وقيل : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَرَضَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى الْيَهُودِيِّ، فَقَالَ عَبْدُاللهِ بْنُ أبي سَلُولٍ : إنَّ مُحَمَّداً ﷺ يَجْعَلُ طَاعَتَهُ كَطَاعَةِ اللهِ، وَيَأْمُرُنَا أنْ نُحِبَّهُ كَمَا أحَبَّتِ النَّصَارَى عِيْسَى عليه السلام ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ ؛ أي فإنْ لَم يفعلوا ما تدعوهُم إليه من إتِّباعِك وطاعةِ أمرِكَ فإنَّ اللهَ تعالى لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِيْنَ ؛ أي لا يغفرُ لَهم ولا يُثني عليهم.
فلما نزلتْ هذه الآيةُ قالتِ اليَهُودُ : نحنُ أبناءُ إبراهيمَ وإسحاق ويعقوبَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ ونحنُ على دينهم، فأنزلَ الله قولَه تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ ؛ معناهُ : أنَّ اللهَ اصطفاهُم بالإسلام، وإنَّ آدمَ كما لم ينفع أولادَه المشركين كذلك سائرَ الأنبياءِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ لا ينفعونهم. وصَفْوةُ الله : هم الذين لا دَنَسَ فيهم بوجهٍ من الوجوهِ ؛ لا في اعتقادٍ ولا في الفعلِ، والاصْطِفَاءُ : هو الاختيارُ، والصَّفْوَةُ : هو الخالِصُ من كلِّ شيءٍ، فمعناهُ :﴿ اصْطَفَى ءَادَمَ ﴾ أي اختارهُ واستخلَصه.
واختلفُوا في آلِ عمران في هذهِ الآية ؛ قيلَ : أراد بهم موسى وهارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ، وقيلَ : أرادَ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ.