قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً ﴾ ؛ أي استجابَ اللهُ دعاءَ (حِنَّةَ)، وقَبِلَ نَذْرَهَا، وجعل مريَم صوَّامةً وقوَّامةً، ربَّاها اللهُ تربيةً حسنة. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ﴾ ؛ أي ضمَّها للقيامِ بأمرِها، قال ﷺ :" أنَا وَكَافِلُ الْيَتِيْمِ كَهَاتَيْنِ، وَأَشَارَ بإصْبَعَيْهِ " وكان عِمرانُ قد ماتَ و(حِنَّةُ) حاملةٌ بمريَمَ. قرأ الحسنُ ومجاهد وابنُ كثير وشيبةُ ونافع وعاصمُ وأبو بكرٍ وابنُ عامر :(وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّا) مخفَّفاً، وزَكَرِيَّا في موضعِ رفعٍ ؛ أي ضمَّها إلى نفسهِ، وتصديقُ هذه القراءةِ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ﴾[آل عمران : ٤٤]. وروي عن ابنِ كثير :(وَكَفِلَهَا زَكَرِيَّا) بكسر الفاءِ ؛ أي ضمَّها، وقرأ الباقون :(وَكَفَّلَهَا) بالتشديدِ وزَكَرِيَّا بالنصب ؛ أي ضمَّها اللهُ زكريَّا فضمَّها إليه بالقُرعةِ، وفي مُصحف أبَيِّ :(وَأكْفَلَهَا) بالألفِ.
وكان زكريَّا وعِمران تزوَّجا أختين ؛ فكانت إشياعُ بنتُ فاقودَ أختَ حِنَّةَ عندَ زكريَّا، وكانت حِنَّةُ بنتُ فاقُودَ أمُّ مريَم عند عِمران.
قال المفسِّرون : فلما وضعَت حنَّةُ مريَمَ لفَّتْها في خِرْقَةٍ وحَمَلَتْهَا إلى المسجدِ فوضعَتها عند الأحبار أبنَاء هارون عليه السلام وهم يومئذ يَلُونَ من بيتِ المقدِسِ مَا يلي الْحَجَبَةُ من الكعبة، فقالَت لَهُم : دُونَكُمْ هذه النَّذِيْرَةِ ؛ فَتَنافَسَ فيها الأحبارُ لأنَّها كانت بنتَ إمامِهم، فقال لَهم زكريَّا عليه السلام : أنَا أحقُّ بها لأنَّ خالَتَها عندِي، فقالت لهُ الأحبارُ : لا تفعل ؛ فإنَّها لو تُركت لأحَقِّ الناسِ بها لتُركت لأُمِّها، ولكنَّا نُقْرِعُ عليها فتكونُ عند مَن خرجَ سهمُه.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ ﴾ ؛ أي عندَما رأى زكريَّا أمرَ اللهِ في مريَم طَمِعَ أنَّ الذي يأتِي مريَم بالفاكهةِ في الشِّتاء يُصْلِحُ له عُقْرَ زوجتهِ، فدعَا عند ذلكَ وقال :﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾ أي وَلَدَاً صالِحاً، والذُّرِّيَّةُ تكونُ واحداً وجَمعاً ؛ ذكراً أو أنثى، وهو هَا هُنا واحدٌ، ويدلُّ عليهِ قولهُ :﴿ فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً ﴾ ولَم يقل أولِياءً، وإنَّما أتت ﴿ طَيِّبَةً ﴾ لأنه على لفظِ ذُرية كما قالَ الشاعرُ : أبُوكَ خَلِيْفَةٌ وَلَدَتْهُ أخْرَى وَأنْتَ خَلِيْفَةٌ ذاكَ الْكَمَالِفأنَّث (وَلَدَتْهُ) لتأنيثِ الخليفة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ ﴾ أي سامِعُ الدعاءِ ومُجيِّبُهُ، وقولُهم :(سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) أي أجابَ، وأنشدَ : دَعَوْتُ اللهَ حَتَّى خِفْتُ أنْ لاَ يَكُونَ اللهُ يَسْمَعُ مَا أقُولُ