قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ ﴾ ؛ أي لَمَّا وجدَ عيسى، وقيل : لَمَّا عَلِمَ منهم الكفرَ والقصدَ إلى قتلِه ؛ ﴿ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ﴾ ؛ أي مَن أعْوَانِي معَ اللهِ، وقيل : معناهُ : مَن أنصَاري إلى سبيلِ اللهِ، وقيل : مَن أنصاري للهِ، ﴿ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ﴾ ؛ أي قال المُخْلِصُونَ في النُّصرةِ والتَّصديقِ : نَحْنُ أعوانُ دِيْنِ اللهِ معكَ ؛ ﴿ آمَنَّا بِاللَّهِ ﴾ ؛ أي صَدَّقْنَا بتوحيدِ الله ؛ ﴿ وَاشْهَدْ ﴾ ؛ يَا عيسى ؛ ﴿ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ ؛ والإحساسُ هو العلم من خَلجَاتِهم.
واختلفَ المفسَِّرونَ في الحواريِّين، قال بعضُهم : هم المخلصونَ الخواصُّ كما قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" الزُّبَيرُ ابْنُ عَمَّتِي وَحَواريِّي مِنْ أُمَّتي " أي هو مِنْ أمَّتِي، وكان الحواريونَ لعيسى اثْنَى عشرَ رَجُلاً مِن أصحابهِ، مكانَ العشرةِ من النبيِّ ﷺ، سُمُّوا الحواريينَ مِن الْحَوَر وَهُوَ الْخُلُوصُ. يقالُ : عَيْنٌ حَوراءُ إذا اشْتَدَّ بَيَاضُ بَيَاضِهَا وَقَلُصَ ؛ وَاشْتَدَّ سَوَادُ سَوَادِهَا وَخَلُصَ، ومنهُ وفيهِ يقال : دَقِيْقٌ حَوَاريٌّ للَّذِي لم يبق منه إلاَّ لُبَابُهُ. وقال بعضُهم : سُمُّوا حواريين من الْحَوَار وهو البياضُ، إلاَّ أنَّهم اختلفُوا في بياضهم. قيلَ : كانوا قصَّاريْنَ يُبَيِّضُونَ الثيابَ فمرَّ بهم عيسى عليه السلام فقالَ : ألاَ أدُلُّكُمْ عَلَى تَطْهِيْرٍ أنْْفَعُ مِنْ هَذَا ؟ قالوا : نَعَمْ، قالَ : تَعَالَواْ حَتَّى نُطَهِّرَ أنْفُسَنَا مِنَ الذُّنوب، فَبَايَعُوهُ على ذلكَ. وقيل : كانوا بيْضَ الثياب، وقيل : كانوا بيْضَ القلوب من الفسَاد.
وقال بعضُهم : كانوا صَيَّادِيْنَ، قال لَهم عيسى عليه السلام : ألاَ أدُلُّكم على اصطيادٍ أنفعُ مِن هذا ؟ قالوا : بَلَى، قال : تعالَوا حتى نصطادَ أنفسَنا من شِرْكِ إبليسَ ؛ فبايَعُوه.
كأنَّهم ذهبوا في هذا إلى اشتقاقهِ مِنَ الْحَوَر الذي هو الرُّجوع، ومنه سُمِّي الْمِحْوَرُ لأنه راجعٌ إلى المكانِ الذي زالَ منه، وقيل : لأنه بدورانهِ يَنْصَقِلُ حتى يَبْيَضَّ. والْمِحْوَرُ عودُ الْخَبَّاز، وقيل : َ الْمِحْوَرُ الذي تدورُ عليه البَكْرَةُ، وربَّما كان من حديدٍ.
وأمّا ما رُوي في الحديثِ :" نَعُوذُ باللهِ مِنَ الْحَوَرِ بَعْدَ الْكَوْر " فمعناهُ : مِن الرجوعِ والخروج من الجماعَة بعدَ أنْ كُنَّا فيها، يقال، كَارَ عِمَامَتَهُ إذا لفَّها على رأسهِ ؛ وحَارَهَا : إذا نَقَضهَا.
قال مُصْعَبُ :(لَمَّا اتَّبَعَ الْحَوَاريُّونَ عِيْسَى عليه السلام وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلاً، وَكَانُواْ إذا جَاعُواْ قَالُواْ : يَا رُوحَ اللهِ جُعْنَا، فَيَضْرِبُ بيَدِهِ الأَرْضَ سَهْلاً كَانَ أوْ جَبَلاً، فَيَخْرُجُ لِكُلِّ إنْسَانٍ رَغِيْفيْنِ فَيَأكُلُهُمَا. فَإذا عَطِشُوا قَالُواْ : يَا رُوحَ اللهِ عَطِشْنَا، فَيَضْرِبُ بيَدِهِ الأَرْضَ فَيَخْرُجُ الْمَاءُ فَيَشْرَبُونَ، قَالُواْ : يَا رُوحَ اللهِ ؛ مَنْ أفْضَلُ مِنَّا إذا شِئْنَا أَطْعِمْنَا وَإنْ شِئْنَا أسْقِيْنَا، وَآمَنَّا بكَ وَاتَّبَعْنَاكَ ؟ قال : أفْضَلُ مِنْكُمْ مَنْ يَعْمَلُ بيدِهِ، وَيَأَكُلُ مِنْ كَسْبهِ، قَالَ : فَصَارُواْ يَغْسِلُونَ الثِّيَابَ بالْكَرْيِ).
وقال ابنُ المبارك :(سُمُّوا حَوَارِيِّيْنَ لأنَّهُ كَانَ يُرَى بَيْنَ أعْيُنِهِمْ أثَرُ الْعِبَادَةِ وَنُورُهَا وَحُسْنُهَا). قال النضرُ بن شُمَيل :(الْحَوَاريُّ خَاصَّةُ الرَّجُلِ الَّذِي يَسْتَعِيْنُ بهِ فِيْمَا يَنُوبُهُ). وعن قتادةَ قال :(الْحَوَاريُّ : الْوَزيْرُ).