قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ ؛ أوَّلُ هذه الآيةِ مُتَّصِلٌ بقولهِ :﴿ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾. وقيلَ : معناهُ : واذكروا ﴿ إِذْ قََالَ اللَّهُ ياعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾. قال الضحَّاك :(كَسَا اللهُ عِيْسَى الرِّيْشَ وَأَلْبَسَهُ النُّورَ ؛ وَقَطَعَ عَنْهُ لَذةَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَب فَطَارَ فِي الْمَلاَئِكَةِ).
واختلفَ المفسرون في معنى التَّوَفِّي في هذه الآيةِ ؛ فقال الحسنُ والكلبي والضحَّاك وابن جُريج :(مَعْنَاهُ : إنِّي قَابِضُكَ وَرَافِعُكَ مِنَ الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ مَوْتٍ). فعلى هذا القولِ لِلتَّوَفِّي ثلاثُ تأويلاتٍ : أحدُها : إنِّي رافعُكَ إلَيَّ وَافِياً لَنْ ينالوُا منكَ شيئاً ؛ من قولِهم : تَوَفَّيْتُ كَذا وَاسْتَوْفَيْتُهُ ؛ إذا أخدتُه تامّاً، والأخذُ معناهُ : إنِّي مُسَلِّمُكَ ؛ مِن قولِهم : تَوَفَّيْتُ كَذا إذا سَلَّمْتَهُ. وقال الحسنُ :(مَعْنَاهُ : إنِّي مُنَيِّمُكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ مِنْ نَوْمِكَ). يدلُّ عليهِ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِالَّيلِ ﴾[الأنعام : ٦٠] أي يُنِيْمُكُمْ ؛ لأن النومَ أخُو الموتِ.
ورويَ عن ابن عبَّاس أنَّ معنى الآيةِ :(إنِّي مُمِيتُكَ) يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ﴾[السجدة : ١١] ولهُ على هذا القولِ تأويلانِ ؛ أحدُها : قال وَهَبُ بن مُنَبهٍ :(تَوَفَّاهُ اللهُ ثَلاَثَ سَاعَاتٍ مِنَ النَّهَار ثُمَّ أحْيَاهُ وَرَفَعَهُ إلَيْهِ). والآخَرُ : قال الضحَّاك :(إنَّ فِي الْكَلاَمِ تَقْدِيْماً وَتَأْخِيْراً ؛ مَعْنَاهُ : إنِّي رَافِعُكَ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِيْنَ كَفَرُواْ ؛ وَمُتَوَفِّيْكَ بَعْدَ إنْزَالِكَ مِنَ السَّمَاءِ) قال الشاعرُ : ألاَ يَا نَخْلَةً مِنْ ذاتِ عِرْقٍ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللهِ السَّلاَمُأي عليكِ السلامُ ورحمةُ اللهِ.
قال ﷺ :" أنَا أوْلَى النَّاسِ بعِيْسَى عليه السلام ؛ لأنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبيٌّ، وَإنَّهُ نَازلٌ عَلَى أُمَّتِي وَخَلِيْفَتِي فِيْهِمْ. فَإذا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ ؛ وَإنَّهُ رَجُلٌ مَرْبُوعُ الْخَلْقِ إلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، سَبْطُ الشَّعْرِ كَأَنَّ شَعْرَهُ يَقْطُرُ وَإنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ، يَدُقُّ الصَّلِيْبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيْرَ، وَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الإسْلاَمِ، وَيُهْلِكُ اللهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا، ويُهْلِكُ اللهُ فِي زَمَانِهِ الدَّجَّالَ، وَيَقَعُ أمْنُهُ فِي الأَرْضِ حَتَّى تَرْتَعِي الأُسُودُ مَعَ الإبلِ، وَالنُّمُورُ مَعَ الْبَقَرِ، وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ، وَيَلْعَبُ الصِّبْيَانُ بالْحَيَّاتِ لاَ يَضُرُّ بَعْضُهُمْ بَعْضاً، وَيَلْبَثُ فِي الأَرْضِ أرْبَعِيْنَ سَنَةً "
وفي رواية كَعْبٍ :" أرْبَعَةٍ وَعِشْرِيْنَ سَنَةً، ثُمَّ يَتَزَوَّجُ وَيُوْلَدُ لَهُ ثُمَّ يَمُوتُ، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَيَدْفِنُوهُ فِي بَيْتِ النَّبيِّ ﷺ ".
وقيل للحسن بْنِ الفَضْلِ : هَلْ تَجِدُ نُزُولَ عِيْسَى مِنَ السَّمَاءِ فِي الْقُرْآنِ ؟ قَالَ :(نَعَمْ ؛ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ﴾[آل عمران : ٤٦] وَهُوَ لَمْ يَكْتَهِلُ فِي الدُّنْيَا، وَإنَّمَا رُفِعَ وَهُوَ شَابٌّ، وَإنَّمَا مَعْنَاهُ وَكَهْلاً بَعْدَ نُزُولِهِ مِنَ السَّمَاءِ).
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ : رَسُُولُ اللهِ ﷺ :" كَيْفَ تَهْلَكُ أُمَّةٌ أنَا فِي أوَّلِهَا ؛ وَعِيْسَى فِي آخِرِهَا ؛ وَالْمَهْدِيُّ مِنْ أهْلِ بَيْتِي فِي وَسَطِهَا؟! "