قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ ؛ ظاهرُ الآيةِ : أن إبليس كان من الملائكة ؛ لأنه مُستثنَى منهم، وإلى هذا ذهبَ جماعةٌ من العلماءِ، وقالوا : معنى قولهِ في آيةٍ أُخرَى :﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ﴾[الكهف : ٥٠] يعني من خُزَّانِ الجِنَانِ. وذهب جماعةٌ آخرون إلى أنه من أولادِ الجانِّ ؛ لأنه مخلوقٌ من نارٍ وله ذريةٌ، والملائكةُ من نورٍ وليس لَهم ذُرية. فعلى هذا يكونُ مُستثنى منقطعاً ؛ مثل قولهِ تعالى :﴿ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ ﴾[النساء : ١٥٧].
وقيل : سببُ كونه مع الملائكةِ : إن الملائكةَ لَمَّا حاربَتِ الجنَّ سَبَوا إبليسَ صغيراً فنشأَ معهم ؛ فلما أُمرتِ الملائكةُ بالسُّجود امتنعَ وكفرَ وعاد إلى أصلهِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ اسْجُدُواْ لأَدَمَ ﴾ هو سجودُ تعظيمٍ وتحيَّة لا سجودَ صلاةٍ وعبادةٍ ؛ نظيرهُ في قصَّة يوسُفَ عليه السلام :﴿ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً ﴾[يوسف : ١٠٠] وكان ذلك تحيَّة الناسِ وتعظيمَ بعضهم بعضاً ؛ ولَم يكن وضعُ الوجهِ على الأرض وإنَّما كان الانحناءَ. فلما جاءَ الإسلامُ أبطلَ ذلك بالسَّلام ؛ وفي الحديثِ :" أنَّ مُعَاذ بْنَ جَبَلٍ لَمَّا رَجَعَ مِنَ الْيَمَنِ سَجَدَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَقَالَ :[مَا هَذَا؟] قَالَ : رَأيْتُ الْيَهُودَ يَسْجُدُونَ لأَحْبَارِهِمْ وَالنَّصَارَى يَسْجُدُونَ لِقِسِّيسِهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :[مَهْ يَا مُعَاذُ! كَذَبَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؛ إنَّمَا السُّجُودُ للهِ عَزَّ وَجَلَّ] ".
وقال بعضُهم : سجَدُوا على الحقيقةِ ؛ جُعِلَ آدمُ قبلةً لَهم ؛ والسجودُ للهِ كما جعلت الكعبةُ قِبلةً لصلاةِ المؤمنين والصلاةُ لله عَزَّ وَجَلَّ. وإنَّما سُمِّي آدم لأنه خُلِقَ من التُّراب ؛ والترابُ بلسان العبرانيَّة آدم بالمدِّ ؛ ومنهم مَن قالَ : سُمِّي بذلك لأنه كان آدمَ اللَّون. وكُنيته : أبو مُحَمَّدٍ ؛ وأبو البَشَرِ.
وقوله :﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ ﴾ منصوبٌ على الاستثناء ؛ ولا ينصرفُ للعُجْمَةِ والْمَعْرِفَةِ. وقولهُ تعالى :﴿ وَاسْتَكْبَرَ ﴾ أي تكبَّرَ وتعظَّمَ عن السجودِ لآدم.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ أي وصارَ مِن الكافرين كقولهِ تعالى :﴿ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾[هود : ٤٣]. وقال أكثرُ المفسِّرين : معناهُ : وكان في علمهِ السابقِ من الكافرين الذين وجبَتْ لَهم الشقاوةُ. قال رسولُ الله ﷺ :" إذا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ وَسَجَدَ، اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي ؛ وَيَقُولُ : يَا وَيْلَهُ أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ ؛ وَأُمِرْتُ بالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ ".