قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ﴾ ؛ أي عن الجنَّة ؛ ومعنى أزلَّهما استزلَّهما، وقراءةُ حمزةَ :(فَأُزَالَهُمَا الشَّيْطَانُ) وهو إبليسُ ؛ وهو فَيْعَالُ من شَطَنَ ؛ أي بَعُدُ، سمِّي بذلك لبُعده عن الخيرِ وعن رحمةِ الله. وقوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ﴾ ؛ أي من النَّعيم.
وَذلِكَ أنَّ إبْلِيْسَ أرَادَ أنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ لِيُوَسْوِسَ لآدَمَ ؛ فَمَنَعَهُ الْخَزَنَةُ ؛ فَأَتَى الْحَيَّةَ وَكَانَتْ مِنْ أحْسَنِ الدَّوَاب لَها أربعُ قوائمَ كَقوائم البعير، وكانت من خُزَّان الجنة ؛ ولإبليس صديقاً، فسألَها أنْ تدخلَهُ في فمها فأدخلته في فمها ؛ ومرَّت به على الخَزَنَةِ وهم لا يعلمون. فلما دخلَ الجنَّة وقفَ بين يدي آدمَ وحوَّاء فناحَ عليهما نياحةً وبكى ؛ وهو أوَّل من ناحَ. فقالا له : ما يبكيكَ ؟ قال : أبكي عليكما تَموتان وتفارقان ما أنتما فيه من النعيمِ والكرامة. فاغتَمَّا لذلك! فقال : يا آدمُ هل أدُلُّكَ على شجرة الْخُلْدِ ؟ فأبَى أن يقبلَ منه. فقاسَمهما بالله إنِّي لكما من الناصحين. فاغْتَرَّا. وما كانا يظُنَّان أن أحداً يَحلفُ بالله كاذباً. فبادرت حوَّاءُ إلى أكل الشجرة ؛ ثم ناولت آدمَ حتى أكلها.
روي : أن سعيدَ بن المسيب كان يحلفُ بالله ما يستثني : ما أكلَ آدمُ من الشَّجرةِ وهو يعقلُ، ولكن حوَّاء سَقَتْهُ الخمرَ حتى إذا سَكَنَ مَأْرَبَهُ إليها فأكلَ، فلما أكلَ تَهافتت عنهما ثيابَهما ؛ وبَدَتْ سوءَاتُهما وأُخرِجا من الجنَّة.
قِيْلَ : إن آدمَ دخل الجنة عند الضَّحْوَةِ ؛ وأُخرج ما بين الصَّلاتين، مَكَثَ نصفَ يومٍ من أيَّامِ الآخرَةِ ؛ وهي خَمسُمائة عامٍ.
مَسْأَلَةٌ : قالت القدريةُ : إن الجنَّة التي أُسْكِنُهَا آدم لَم تكن جنَّة الْخُلْدِ، وإنَّما كانت بستاناً مِن بساتينِ الدُّنيا ؟ قالوا : لأنَّ الجنَّة لا يكونُ فيها ابتلاءٌ ؛ ولا تكليفٌ.
الْجَوَابُ : أنَّا قد أجمعْنَا على أنَّ أهلَ الجنَّةِ مأمورون فيها بالمعروفِ ومكلَّفون ذلك. وجوابٌ آخرُ : أن اللهَ قادراً على الجمعِ بين الأضداد ؛ فأُريَ آدم الْمِحْنةَ في الجنَّة ؛ وأُري إبراهيمُ النعيمَ في النار ؛ لئَلاَّ يأمنَ العبدُ ربَّهُ ؛ ولا يقنَطُ من رحمتهِ. وَلِيَعْلَمَ : أن اللهَ له أن يفعلَ ما يشاء.
واحتجُّوا بأن من دخل الجنَّة يستحيل عليه الخروج منها. فالجوابُ : أن مَن دخلها للثواب لا يخرج منها أبداً ؛ وآدمُ لم يدخلها للثواب ؛ ألا ترى أن رَضْوَانَ وخُزَّانَ الْجِنَانِ يدخلونَها ثم يخرجون منها وإبليسُ كان خازنَ الجنَّة فأُخرج منها.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ ؛ أي قُلنا لآدَمَ وحواءَ وإبليسَ والحيَّة والطاووسَ : انزلوا إلى الأرض ﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ فإبليس عدوٌّ لآدم وذريته ؛ والحيَّة تلدغ ابن آدم ؛ وابن آدم يَشْدَخُ رأسها.
قيل : إن إبليسَ قال لآدم وحوَّاء : أيُّكما أكلَ من الشجرة كان مُسَلَّطاً على صاحبه ؛ فابتدَءَا إلى الشجرةِ ؛ فسبقت حوَّاءُ فأكلت منها ؛ وأطعمت آدمَ. وقيل : إن آدمَ قال لهَا : يا حوَّاء ويْحَكِ ما تعلمين أن الله قد نَهانا عنها. فقالت : أما تعلمُ سَعَةَ رَحْمَةِ اللهِ، فأكلَت منها وأطعمتهُ.
قِيْلَ : إن إبليسَ لَمَّا دخل إلى الجنة في فَمِ الحية سأل الطاووسَ عن الشجرة التي نَهى اللهُ آدمَ وَحوَّاء عنها ؛ فدلَّ عليها. فغضبَ اللهُ على الطاووس فأهبطه بميسانَ ؛ وهو موضعٌ بسَوادِ العِرَاقِ. وأُهبطَ إبليسُ بساحلِ بحر إيليَّة ؛ وهي مدينةٌ إلى جنب البصرةِ. وأُهبطَتِ الحيَّةُ بأصبهان.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ ؛ أي إلى وقتِ انقضاء آجَالكم ومنتهى أعماركم. روي : أن إبراهيمَ بن أدهم كان يقولُ :(أوْرَثَتْنَا تِلْكَ الأَكْلَةُ حُزْناَ طَوِيْلاً).


الصفحة التالية
Icon