قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى ﴾ ؛ أي اخْتَبرُوهُمْ في عقولِهم وتدبيرِهم وديانَتِهم حتى إذا بَلَغُوا مبلغَ النِّكاحِ وهو الْحُلُمُ، وهذا دليلُ جواز الإذن للصبيِّ في التجارةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً ﴾ ؛ أي عَلِمْتُمْ منهم ووجدتُم إصْلاحاً في عقولِهم وحِفْظاً في أموالِهم ﴿ فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴾ ؛ الَّتِي عندَكم. نزلَتْ هذه الايةُ في ابنِ رُفَاعَةَ وَعَمِّهِ، وكان رفاعةُ قد تُوُفِّيَ، وتركَ ابنَهُ صغيراً، فَأتَى عمُّهُ ثابتُ إلى النبيِّ ﷺ، فقال لهُ : إنَّ ابْنَ أخِي يَتِيْمٌ فِي حِجْرِي، فَمَتَى أدْفَعُ إلَيْهِ مَالَهُ ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ ﴾ ؛ أي لا تأْكُلُوا أموالَ اليتامَى بغيرِ حَقِّ. والإسْرَافُ : مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ ﴾ ؛ أي لِيَتَوَرَّعْ بغِنَاهُ عن مالِ اليتيم، ولا يُنْقِصْ شيئاً من مَالِهِ، والْعِفَّةُ : الامْتِنَاعُ عَمَّا لاَ يَحِلُّ فِعْْلُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ ؛ اختلفُوا في معنَى ذلكَ، قال عمر بن الخطاب وسعيدِ بن جُبير وعبيدةُ السَّلمانِيُّ :(مَعْنَاهُ : فَلْيَأْخُذْ مِنْ مَالِ الْيَتِيْمِ عَلَى جِهَةِ الْقَرْضِ مِقْدَارَ حَاجَتِهِ، فَإذا أيْسَرَ رَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَهُ). وهكذا روَى الطحَّاويُّ عن أبي حنيفةَ، فمعنى قولِه تعالى :﴿ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ بالْقَرْضِ، نظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ ﴾[النساء : ١١٤] أي أو قَرْضٍ.
وقال مكحولُ وعطاء وقتادةُ :(إنَّ لِوَلِيِّ الْيَتِيْمِ أنْ يَأْخُذ مِن مَالِ الْيَتِيْمِ قَدْرَ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ وَيَسُدُّ جُوعَتَهُ لاَ عَلَى جِهَةِ الْقَرْضِ). قال الشَّعبيُّ :(لاَ يَأْكُلُ إلاَّ أنْ يَضْطَرَّ إلَيْهِ كَأَنْ يَضْطَرَّ إلَى الْمَيْتَةِ). وقال بعضُهم :(فَلْيَأْكُلْ بالْمَعْرُوفِ) أي يأكل من غيرِ إسرافٍ، ولا قَضَاءٍ عليهِ فيما أكلَ.
واختلفوا في كيفيَّة هذا بالمعروفِ، فقالَ عكرمةُ والسُّدِّيُّ :(يَأْكُلُ وَلاَ يُسْرِفُ فِي الأَكْلِ وَلاَ يَكْتَسِي مِنْهُ). وقال النخعيُّ :(لاَ يَلْبَسُ الْكِتَّانَ وَلاَ الْحُلَلَ، وَلَكِنْ مَا يَسُدُّ الْجُوْعَةَ وَيُوَاري العَوْرَةَ). وقال بعضُهم : معنى :﴿ فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ هو أن يأكلَ من تَمْرِ نخيلهِ ولَبَنِ مَوَاشِيهِ بالمعروفِ ولا قضاءَ عليه، فأمَّا الذهبُ والفضَّة إذا أخذ منه شيئاً ردَّ بَدَلَهُ. قال الضحَّاك :(الْمَعْرُوفُ رُكوبُ الدَّابَّةِ وَخِدْمَةُ الْخَادِمِ، ولََيْسَ لَهُ أنْ يَأْكُلَ من مالهِ شيئاً).
وعن ابنِ عبَّاس :(أنَّ رَجُلاً جَاءَ إلَيْهِ فَقَالَ لَهُ : إنَّ فِي حِجْرِي أمْوَالَ أيْتَامٍ ؛ أفَتَأْذنُ لِي أنْ أُصِيبَ مِنْهَا ؟ فَقَالَ : إنْ كُنْتَ تَبْغِي ضَالَّتَهَا، وَتَهْنَا جَرْبَاهَا، وَتَلُوطَ حَوضَهَا فَاشْرَبْ غَيْرَ مُضِرٍّ بالنَّسْلِ وَلاَ نَاهِكٍ فِي الْحَلْب). عنِ ابن عبَّاس روايةٌ أخرى أنَّ معنى الآيةِ :(فَلْيَأكُلْ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ بالْمَعْرُوفِ حَتَّى لاَ يُصِيْبَ مِنْ مَالِ الْيَتِيْمِ شَيْئاً).
وعنِ ابن مسعُودٍ رضي الله عنه أنهُ قال :(لاَ يَأْكُلُ مِنْ مَالِ الْيَتِيْمِ قَرْضاً وَغَيْرَهُ) وهذا قولُ أبي حنيفةَ. وروى بشْرُ عن أبي يوسف أنه قال :(لاَ يَأْكُلُ مِنْ مَالِ الْيَتِيْمِ إذا كَانَ مُقِيْماً، فَإنْ خَرَجَ فِي تَقَاضِ دَيْنٍ لِلْيَتِيْمِ أوْ إلَى ضِيَاعٍ لَهُ، فَلَهُ أنْ يُنْفِقَ وَيَكْتَسِي وَيَرْكَبَ، فَإذا رَجَعَ رَدَّ الثِّيَابَ وَالدَّابَّةَ إلَى الْيَتِيْمِ).