قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ ﴾ ؛ هذه الآيةُ عطفٌ على ما تقدَّم ؛ أي وَحَرَّمَ عليكم المحصناتِ وهنَّ ذواتُ الأزواجِ اللاَّتي أحْصِنَّ بالأزواجِ، ﴿ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ ﴾ أي إلاّ مَا أفَاءَ اللهُ عليكم من السَّبَايَا. ورويَ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ :" أنَّ الْمُسْلِمِيْنَ أصَابُوا يَوْمَ أوْطَاسَ سَبَايَا لَهُنَّ أزْوَاجٌ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ ؛ فَتَأثَّمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ وَطْئِهِنَّ ؛ وَقَالُواْ : لَهُنَّ أزْوَاجٌ فِي دَار الْحَرْب فأَنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ، فَنَادَى مُنَادِي رَسُولُ اللهِ ﷺ :" ألاَ لاَ تُوْطَأَ الْحُبَالُ حَتَّى يَضَعْنَ، وَلاَ غَيْرُ الْحُبَالِ حَتَّى يَسْتَبْرِئْنَ بحَيْضَةٍ ".
وَذَهَبَ بَعْضُ الصحابَة وهو أبَيُّ بن كعبٍ، وأنسُ وجابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ :(أنَّ الأَمَةَ إذا خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِ مَوْلاَهَا إلَى مِلْكِ رَجُلٍ آخَرَ ؛ حَرُمَتْ عَلَى زَوْجِهَا بأَيِّ سَبَبٍ خَرَجَتْ) حتى رُويَ عن ابنِ عبَّاس أنهُ قالَ :(طَلاَقُ الأَمَةِ يُثْبتُ طَلاَقَهَا وَبَيْعَهَا وَهِبَتَهَا وَمِيرَاثَهَا وَسَبْيَهَا وَصَدَقَتَهَا).
وأنكرَ ذلك عَلِيٌّ وعمرُ وعبدُالرحمنِ بن عوفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ؛ وقالوا :(إنَّمَا نَزَلَتِ الآيَةُ فِي السَّبَايَا خَاصَّةً بِدَلِيْلِ مَا رُويَ أنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا اشْتَرَتْ بَرِيْرَةَ وَأعْتَقَتْهَا ؛ فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْداً أسْوَدَ يُسَمَّى مَغِيْثاً).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾ ؛ نُصِبَ على المصدر ؛ أي كَتَبَ اللهُ عليكم كتابَ اللهِ، وقيل نُصِبَ على الإغراءِ ؛ أي إلْزَمُوا كتابَ اللهِ، واتَّبعُوا كتابَ اللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَالِكُمْ ﴾ ؛ قرأ أهلُ الكوفة (وَأحِّلَ) على ما لَم يسمَّ فاعلهُ، نَسَقاً على قوله (حُرِّمَتْ)، وقرأ الباقون بالفتحِ على أنهُ قد ذكرَ اللهُ بقوله :(كِتَابَ اللهِ)، والمعنى : أحَلَّ لكُم نكاحَ ما سِوَى ما ذكرتُ لكم من المُحَرَّمَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ﴾ ؛ بدل من (مَا)، فمن رفعَ أحَلَّ فموضعها رفعٌ، ومن نصبَ فموضعُها نصبٌ. وقال الكسائيُّ :(مَوْضِعُهُ نَصْبٌ فِي الْقِرَائَتَيْنِ بنَزْعِ الْخَافِضِ، يَعْنِي لَئِنْ تَبْتَغُوا بأَمْوَالِكُمْ ؛ أيْ تَطْلُبُوا بأمْوَالِكُمْ إمَّا بنِكَاحٍ أوْ بِملْكِ يَميْنٍ مُحْصِنِيْنَ ؛ أيْ نَاكِحِيْنَ أعِفَّاءَ غَيْرَ زُنَاةٍ، وَأصْلُهُ مِن : سَفَحَ الْمَذِيُّ وَالْمَنِيّ). في هذا دليلٌ أن بَدَلَ الْبُضْعِ لا يجوزُ أن يكون صِداقاً، وكذلكَ خدمةُ الزَّوجِ لا يكونُ صِداقاً عند أبي حنيفةَ وأبي يوسف.
وأصْلُ الإحْصَانِ في اللغة : مَا يَمْنَعُ، ومنه يسمَّى الْحِصْنُ حِصْناً ؛ لأنه يَمْنَعُ مِن العدوِّ، ومنه الدِّرْعُ الْحَصِيْنَةُ ؛ أي الْمَنِيْعَةُ، وَالْحِصَانُ بكسر الحاء : الْفَحْلُ من الخيلِ يَمْنَعُهُ رَاكِبُهُ مِنَ الْهَلاَكِ، والْحَصَانُ بفتح الحاء : الْعَفِيْفَةُ مِنَ النِّسَاءِ لِمَنْعِهَا فَرْجَهَا ؛ مَنه قال حِسَانُ في عائشةَ : حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ برِيبَةٍ وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِوالإحْصَانُ في القُرْآنِ يقعُ على معانٍ مختلفة منها : نِكَاحٌ كما في أوَّل هذه الآية ؛ ومنها : الْجِزْيَةُ كما في قولهِ تعالى :