قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاوةِ ﴾ ؛ أي استعينوا على ما استقبَلَكم من أنواع البلايا. وقيلَ : على طلب الآخرة بالصبر على أداء الفرائض ؛ وبالصلاة على تَمحيصِ الذنوب. وقيل : استعينوا بالصَّبر والصلاة على ما يَذْهَبُ منكم من الرئاسة والْمَأْكَلَةِ باتِّباع مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وقال مجاهدُ :(الصَّبْرُ فِي هَذِهِ الآيَةِ الصَّوْمُ). وقيل :(الواو) هنا بمعنى (على) ؛ تقديره : استعينوا فيما يَنُوبُكُمْ بالصبر على الصلاة ؛ كقولهِ تعالى :﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾[طه : ١٣٢].
وروي أن ابنَ عباس نُعِيَتْ إلَيْهِ بنْتٌ لَهُ وَهُوَ فِي سَفَرٍ ؛ فَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ :(عَوْرَةٌ سَتَرَهَا اللهُ ؛ وَمُؤْنَةٌ كَفَاهَا اللهٌ ؛ وَأجْرٌ سَاقَهُ اللهٌ). ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. ثُمَّ قَالَ :(صَنَعْنَا مَا أمَرَنَا اللهُ بهِ : وَاسْتَعِينُوا بالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ).
وأصلُ الصَّبْرِ هُوَ الْحَبْسُ، يقال : قُتِلَ فُلاَنٌ صَبْراً ؛ إذا حُبس حيّاً حتى ماتَ، وقيل : الصَّبْرُ هو الصومُ ؛ ويسمَّى شهر رمضان شهر الصَّبر، وسُمي الصوم صبراً ؛ لأن صاحبه يحبسُ نفسه عن الطعام والشراب.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِين ﴾ ؛ يحتملُ أنَّ لها كنايةٌ عن الصلاة ؛ لأنَّها أشرفُ الطاعات، ويحتمل أن تكون عن الاستعانةِ، ويحتمل أن يكون المرادُ بها الصبر والصلاةُ جميعاً، كما قال الله تعالى :﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ﴾[التوبة : ٦٢] فاكتفى بذكرِ أحدهما دلالةً على الآخرِ. ونظيرُ القول الأول قَوْلُهُ تعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا ﴾[التوبة : ٣٤] ردَّ الكنايةَ إلى الفضة لأنَّها أغلبُ وأعم. وقال تعالى :﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا ﴾[الجمعة : ١١] ردَّ الكنايةَ إلى التجارة لأنَّها الأهم والأفضلُ. وقال الأخفشُ :(رَدَّ الْكِنَايَةَ إلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ؛ أرَادَ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْهُمَا الْكَبيْرَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا ﴾[الكهف : ٣٣] يَعْنِي كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَقَالَ تَعَالَى :﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ﴾[المؤمنون : ٥٠] وَلَمْ يَقُلْ آيَتَيْنِ ؛ أرَادَ جَعَلْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا آيَةً).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ ﴾ أي ثقيلةٌ شديدةٌ إلا على الخاشعين ؛ أي المؤمنين. وقيلَ : إلا العابدين المطيعين. وقيلَ : الخائفين. وقيل : المتواضعين. وقال الزجَّاجُ :(الْخَاشِعُ الَّذِي يُرَى أثَرُ الذُّلِّ وَالْخُشُوعِ عَلَيْهِ ؛ وَيُقَالُ : خَشَعَ ؛ إذَا رَمَى ببَصَرِهِ إلَى الأَرْضِ، وَأخْشَعَ إذَا طَأْطَأَ رَأسَهُ لِلسُّجُودِ). والخشوعُ والخضوعُ نظيران ؛ إلا أن الخضوعَ يكون بالبدن والخشوعَ بالبصر والصوتِ والقلب كما قالَ تعالى :﴿ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ ﴾[القلم : ٤٣]﴿ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ ﴾[طه : ١٠٨]﴿ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ ﴾[الحديد : ١٦].


الصفحة التالية
Icon