قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ ؛ أي إنَّ الذين آمَنوا بموسى والتوراةِ ثم لَم يتهَوَّدوا ؛ والذين آمَنُوا بعيسى ولَم يقسِموا بالنصرانيَّة، ﴿ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ ﴾، أي والذين تَهودوا وتنصَّروا وتصابأُوا، ﴿ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾.
اختلفَ العلماءُ في تسميةِ الذين هادوا بهذا الاسم : فقالوا : بعضُهم سُمُّوا بذلك لأنَّهم هَادُوا ؛ أي تَابُوا من عبادةِ العجلِ، قَوْلُهُ تَعَالَى : إخباراً عنهم :﴿ إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ ﴾[الأعراف : ١٥٦] أي تُبْنَا. وقال بعضُهم : لأنَّهم هَادُوا ؛ أي مَالُوا عنِ الإسلام وعن دينِ موسى عليه السلام ؛ يقال : هَادَ يَهُودُ هُوْداً ؛ إذا مالَ.
واختلَفُوا أيضاً في تسميةِ النَّصارى بذلك ؛ قال مقاتلُ :(لأَنَّ أصْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا نَاصِرَةٌ ؛ كَانَ يَنْزِلُهَا عِيْسَى وَأُمُّهُ ؛ فَنُسِبُوا إلَيْهَا). وقال الزُّهْرِيُّ :(سَمُّوا بذَلِكَ لأَنَّ الْحَوَارِيِّيْنَ قَالُواْ : نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ).
(وَالصَّابييْنَ) قرأ أهلُ المدينةِ بتركِ الهمزة. وقرأ الباقون بالهمزة وهو الأصلُ. يقال : صَبَا يَصْبُوا صَبْواً، إذا مالَ وخرج من دينٍ إلى دين.
واختلفوا في الصابئين من هم ؟ فقال عُمَرُ : هُمْ طَائِفَةٌُ مِنْ أهْلِ الْكِتَاب ذَبَائِحُهُمْ ذَبَائِحُ أهْلِ الْكِتَاب ؛ وبه قال السديُّ. وقال ابنُ عباس :(لاَ دِيْنَ لَهُمْ ؛ وَلاَ تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ ؛ وَلاَ مُنَاكَحَةُ نِسَائِهِمْ). وقال : مجاهدُ :(قَبيْلَةٌ نَحْوَ الشَّامِ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالْمَجُوسِ لاَ دِيْنَ لَهُمْ ؛ وَكَانَ لاَ يَرَاهُمْ مِنْ أهْلِ الْكِتَاب). وقال مقاتلُ وقَتَادةُ :(هُمْ يُقِرُّونَ باللهِ ؛ وَيَعْبُدُونَ الْمَلاَئِكَةَ ؛ وَيَقَرَأُونَ الزَّبُورَ ؛ وَيُصَلُّونَ إلَى الْكَعْبَةِ، أخَذُواْ مِنْ كُلِّ دِيْنٍ شَيْئاً). وقال الكلبيُّ :(هُمْ قَوْمٌ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَحْلِقُونَ أوْسَاطَ رُؤُوسِهِمْ وَيُحَنُّونَ مَذَاكِيْرَهُمْ). وقال عبدُالعزيز بن يحيى :(قَدِ انْقَرَضُواْ فَلاَ عَيْنٌ وَلاَ أثَرُ).
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ أي على التحقيقِ وعقدِ التصديقِ ؛ وهم الذين آمَنُوا بعيسَى ثم لَمْ يتهوَّدوا ولَم يتنصَّروا ولَم يتصَابأُوا ؛ وانتظَرُوا خروجَ مُحَمَّدٍ ﷺ قبلَ مَبْعَثِهِ. وَقَيْلَ : هم طلابُ الدِّين ؛ منهم حبيبُ النجارُ ؛ وقسُّ بن ساعدةَ ؛ وورقةُ بن نوفلِ ؛ وزيدُ بن عمرِو بن نُفيل ؛ وأبو ذرٍّ الغفاريُّ ؛ وسلمانُ الفارسي ؛ وبَحِيرَا الراهبُ، آمَنوا بالنبيِّ ﷺ قبلَ مَبْعَثِهِ، فمنهم مَن أدركَهُ وتابعَهُ ومنهم من لَم يدركهُ. وَقِيْلَ : هم مؤمِنُو الأمَمِ الماضيةِ. وَقِيْلَ : هم المؤمنونَ مِن هذه الأُمَّة.
قوله :﴿ وَالَّذِينَ هَادُواْ ﴾ أي الذينَ كانوا على دِينِ موسَى ولَم يبدِّلوا ولَم يغيِّروا. ﴿ وَالنَّصَارَى ﴾ الذين كانوا على دِين عيسَى ولَم يبدلِّوا ومَاتُوا على ذلكَ، ﴿ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ مَن ماتَ منهم وهو مؤمنٌ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾، إنَّما ذكرَهُ بلفظِ الجمع ؛ لأن لفظةَ (مَنْ) تصلحُ للواحدِ ؛ والاثنين ؛ والجمع ؛ والمذكَّر ؛ والمؤنث، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ﴾[محمد : ١٦]﴿ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ ﴾[الأحزاب : ٣١]. قال الفرزدقُ في التَّثنيةِ : تَعَالَ فَإنْ عَاهَدْتَنِي لاَ تَخُونَنِي نَكُنْ مِثْلُ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِفإن قِيْلَ : ما معنى إعطاءِ أجرِ المؤمن وهو عاملٌ لنفسهِ ؟ قِيْلَ : لَمَّا حملَ على نفسهِ المشقَّةَ وحرمَها شهواتَها ؛ فآجَرَهُ في الآخرة عِوَضاً عما فاتَهُ من اللَّذَّاتِ في الدُّنيا.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ ؛ فيما تعاطَوا من الحرامِ، ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾، على ما اقترَفُوا من الآثامِ، لِما سبقَ لَهم في الإسلامِ. وَقِيْلَ :﴿ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ في الكبائرِ فأنَا أغْفِرُهَا، ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ على الصغائرِ فإنِّي أُكفِّرُها.