قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلِكَ ﴾، قال الكلبي : قالوا بَعْدَ ذَلِكَ : لَمْ نَقْتُلْهُ نَحْنُ ؛ وَأَنْكَرُواْ ؛ وَلَمْ يَكُنْ أعْمَى قَلْباً وَلاَ أشَدَّ تَكْذِيْباً مِنْهُمْ لِنَبِيِّهِمْ عِنْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلِكَ ﴾.
قال الكلبيُّ :(قَسَتْ ؛ أيْ يَبسَتْ وَفَسَدَتْ). وقال أبو عُبيد :(حَقَدَتْ). وقال الواقديُّ :(جَفَّتْ فَلَمْ تَلِنْ). وَقِيْلَ : اسودَّت. وقال الزجَّاج :(تَأْويْلُ الْقَسْوَةِ ذَهَابُ اللِّيْنِ وَالْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ). وَقِيْلَ : قَسَتْ ؛ أي غَلُظَتْ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مِّن بَعْدِ ذلِكَ ﴾ أي من بعدِ إحياء الميْتِ : وَقِيْلَ : من بعدِ هذه الآيات التي تقدَّمت من مَسْخِ القردة والخنازيرِ ؛ ورفعِ الجبل ؛ وخروجِ الأنْهار من الحجَرِ ؛ وغيرِ ذلك. ﴿ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ ﴾ ؛ في عِلَظِهَا وشدَّتِها ويُبسِها ؛ ﴿ أَوْ أَشَدُّ ﴾ ؛ يبساً وغلظاً. ومعنى ﴿ أَوْ أَشَدُّ ﴾ : بل أشدُّ، كقوله :﴿ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ﴾[النحل : ٧٧]. وَقِيْلَ :(أوْ) بمعنى الواو ؛ أي وَأَشَدُّ، ﴿ قَسْوَةً ﴾، وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ ﴾[النور : ٦١] ومثلُ :﴿ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ ﴾[النور : ٣١]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً ﴾[الإنسان : ٢٤]. وقرأ أبو حَيَوَةَ :(أوْ أشَدَّ قَسَاوَةً).
ثُم عَذَرَ اللهُ الحجارةَ وفضَّلها على القلب القاسي، فأخبرَ أنَّ منها ما يكونُ فيه رطوبةً ؛ وأنَّ منها لَمَا يتردَّى من أعلَى الجبلِ إلى أسفلهِ مخافةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فقَالَ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ ﴾، وقرأ مالكَ بن دينارٍ :(نَتَفَجَّرُ) بالنون كقوله﴿ فَانفَجَرَتْ ﴾[البقرة : ٦٠]. وفي مُصحف أُبَيٍّ (مِنْهَا الأَنْهَارُ) ردَّ الكنايةَ إلى الحجارةِ. ﴿ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ ﴾، قرأ الأعمشُ :(يَتَشَقَّقُ).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ ؛ أي ينْزِلُ من أعلى الجبلِ إلى أسفله من خِشْيَةِ الله ؛ وقلوبكم يا معشرَ اليهود لا تلينُ ولا تخشعُ ولا تأتِي بخيرٍ. قِيْلَ : لا يهبطُ من الجبالِ حَجَرٌ بغير سببٍ ظاهرٍ إلا وهو مجعولٌ فيه التمييز. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ ؛ وعيدٌ وتَهديدٌ ؛ أي ما اللهُ بتاركٍ عقوبةَ ما تعملون ؛ بل يُجازيكم به.


الصفحة التالية
Icon