قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ ؛ أي له القدرةُ على أهلِ السَّموات والأرضِ، والخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ ﴾ ؛ أي يعذِّبُ مَنْ يشاءُ على الذنب الصغير وهو عدلٌ منه، ويغفرُ لِمَنْ يشاءُ الذنبَ العظيمَ وهو فضلٌ منه ؛ أي يعذِّبُ من توجبُ الحكمة تعذيبَهُ، ويغفرُ لمن توجبُ الحكمة مغفرتَهُ، ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
وقولهُ تعالى :﴿ ياأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ﴾ ؛ أي لا يحزِنُكَ يا مُحَمَّدُ فعلُ الذين يسارعُ بعضهم بعضاً في الإقامةِ على الكفرِ والحثِّ عليه.
قرأ نافعُ :(يُحْزِنُكَ) بضمِّ الياء، ومعناهما واحدٌ. وقرأ السلميُّ :(يُسْرِعُونَ فِي الْكُفْرِ)، وقولهُ تعالى :﴿ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ﴾ وهم المنافقون ﴿ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ ﴾ ؛ أي ومن يهودِ المدينة الذين هم أهلُ الصُّلح للنبيِّ صلى الله عليه وسلم. وفي هذا تسليةٌ للنبيِّ ﷺ وتثبيتٌ لفؤادهِ بوعد النُّصرَةِ والظفرِ، وإعلامٌ أنَّ اليهود والنصارَى والمنافقين لا يضرُّونَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :" ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ ﴾ ؛ أي قابلون للكذب، يعني بني قُريظة هم سَمَّاعون لقومٍ آخَرين لم يأتُوكَ، يعني يهودَ خيبر، وذلك : أنَّ رَجُلاً وَامْرَأةً مِنْ أشْرَافِ أهْلِ خَيْبَرَ زَنَيَا، وَكَانَتْ خَيْبَرُ حَرْباً لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، وَكَانَ الزَّانِيَانِ مُحْصِنَيْنِ، وَكَانَ حَدَّهُمَا الرَّجْمُ فِي التَّوْرَاةِ، فَكَرِهَتِ الْيَهُودُ رَجْمَهُمَا لِشَرَفِهِمَا، وَقَالُواْ : إنَّ هَذا الرَّجُلَ الَّذِي فِي يَثْرِبَ لَيْسَ فِي كِتَابِهِ الرَّجْمُ وَلَكِنَّهُ الضَّرْبُ، فَأَرْسِلُوا إلَى إخْوَانِكُمْ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَإنَّهُمْ صُلْحٌ لَهُ وَجِيراَنُهُ فَيَسْأَلُونَهُ عَنْ ذلِكَ، فَبَعَثُوا رَهْطاً مِنْهُمْ مُسْتَخْفِينَ، وَقَالُواْ لَهُمْ : اسْأَلُوا مُحَمَّداً عَنِ الزَّانِيَينِ مُحْصِنَينِ مَا حَدُّهُمَا ؟ فَإنْ أمَرَكُمْ بالْجَلْدِ فَاقْبَلُواْ مِنْهُ، وَإنْ أمَرَكُمْ بالرَّجْمِ فَاحْذرُوهُ وَلاَ تَقْبَلُواْ مِنْهُ، وَأرْسَلُواْ الزَّانِيَيْنِ مَعَهُمْ.
فَقَدِمَ الرَّهْطُ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَذَكَرُوا لَهُمْ ذلِكَ وَقَالُواْ : اسْأَلُوا لَنَا مُحَمَّداً عَنْ قَضَائِهِ، فَقَالَ لَهُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ : إذاً وَاللهِ يَأْمُرُكُمْ بمَا تَكْرَهُونَ، ثُمَّ انْطَلَقَ مِنْهُمْ قَوْمٌ مِثْلُ كَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ وَكَعْب بْنِ أسَدٍ وَسَبْعَةَ بْنِ عُمَرَ وَمَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ وَعَازُورَاءَ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالُواْ : يَا مُحَمَّدُ أخْبرْنَا عَنِ الزَّانِيَةِ وَالزَّانِي إذا أحْصَنَا مَا حَدُّهُمَا وَكَيْفَ تَجِدُ فِي كِتابكَ ؟ فَقَالَ ﷺ :" وَهَلْ تَرْضَوْنَ بقَضَائِي فِي ذلِكَ ؟ " قَالُواْ : نَعَمْ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام بالرَّجْمِ، فَأَخْبَرَهُمْ فَأَبَوا أنْ يَأْخُذُواْ بهِ.
فَقَالَ جِبْرِيلُ عليه السلام : اجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ ابْنَ صُوريَّا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" هَلْ تَعْرِفُونَ شَابّاً مِنَ الرِّبيِّينَ أعْوَرَ سَكَنَ فَدَكْ ؟ " قَالُواْ : نَعَمْ، قَالَ :" فَأَيُّ رَجُلٍ هُوَ فِيْكُمْ ؟ " قَالُواْ : هُوَ أعْلَمُ مَنْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مِنَ الْيَهُودِ بالتَّوْرَاةِ، قَالَ :" فَأَرْسِلُواْ لَهُ "، فَفَعَلُواْ، فَأَتَاهُمْ ابْنُ صُوريَّا، فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ ﷺ :" أنْتَ ابْنُ صُوريَّا ؟ " قَالَ : نَعَمْ، قَالَ :" أنْتَ أعْلَمُ الْيَهُودِ ؟ " قَالَ : كَذلِكَ يَزْعُمُونَ، قَالَ :" أتَجْعَلُونَهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ؟ " قَالُواْ : نَعَمْ قَدْ رَضِينَا بهِ إذا رَضِيْتَ بهِ.
فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ ﷺ :" أنْشِدُكَ باللهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ الْقَوِيُّ، إلَهُ بَنِي إسْرَائِيلَ الَّذِي أنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَالَّذِي فَلَقَ لَكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَاكُمْ وَأغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ، وَالَّذِي ظَلَّلَ عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ، وَأنْزَلَ عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، هَلْ تَجِدُونَ فِي كِتَابِكُمُ الرَّجْمَ عَلَى مَنْ أحْصَنَ ؟ " قَالَ ابْنُ صُوريَّا : نَعَمْ وَالَّذِي ذكَّرْتَنِي بهِ ؛ وَلَوْلاَ خِشْيَةَ أنْ تُحْرِقَنِي التَّوْرَاةُ إنْ كَذبْتُ أوْ غَيَّرْتُ لَمَا أعْرَفْتُ لَكَ، وَلَكِنْ كَيْفَ فِي كِتَابكَ يَا مُحَمَّدُ ؟ قَالَ :" إذا شَهِدَ أرْبَعَةٌ عُدُولٌ أنَّهُ أدْخَلَ فِيْهَا، كَمَا يَدْخُلُ الْمِيْلُ فِي الْمِكْحَلَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ "، قَالَ ابْنُ صُوريَّا : وَالَّذِي أنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى لَهَكَذا أنْزِلَ عَلَى مُوسَى.
فَقَالَ لَهُ قَوْمُهُ : مَا أسْرَعَ مَا صَدَقْتَهُ، أمَا كُنْتَ لَمَّا أتَيْنَا عَلَيْكَ بأَهْلٍ وَمَا أنْتَ بأَعْلَمِنَا، فَقَالَ لَهُمْ : أنْشَدَنِي بالتَّوْرَاةِ، وَلَوْلاَ خِشْيَةَ التَّوْرَاةِ أنْ تُهْلِكَنِي لَمَا أخْبَرْتُهُ، وَخِفْتُ إنْ كَذبْتُهُ أنْ يَنْزِلَ بنَا عَذابٌ شَدِيدٌ.
فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ برَجْمِ الْيَهُودِيَّين الزَّانِيَينِ، وَقَالَ :" أنَا أوَّلُ مَنْ يُحيْي سُنَّةً إذا أمَاتُوهَا "، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ﴾ فَلاَ يُخْبرُكُمْ بهِ.
فَقَالَ ابْنُ صُوريَّا : أنْشِدُكَ باللهِ يَا مُحَمَّدُ أنْ تُخبرَنَا بالْكَثِيرِ الَّّذِي أمِرْتَ أنْ تَعْفُو عَنْهُ، فَأَعْرَضَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقَالَ ابْنُ صُوريَّا : أخْبرْنَا عَنْ ثَلاَثِ خِصَالٍ، قَالَ :" مَا هُنَّ ؟ " قَالَ : أخْبرْنِي عَنْ نَوْمِكَ ؟ قَالَ :" تَنَامُ عَيْنَايَ وَقَلْبي يَقْظَانٌ "، قَالَ : صَدَقْتَ.
قَالَ : فَأَخْبرْنِي عَنْ شَبَهِ الْوَلَدِ بأَبيهِ لَيْسَ فِيْهِ مِنْ شَبَهِ أمِّهِ شَيْءٌ، وَعَنْ شَبَهِ أمِّهِ لَيْسَ فِيْهِ مِنْ شَبَهِ أبيهِ شَيْءٌ، قَالَ :" أيُّهُمَا عَلاَ وَسَبَقَ مَاؤُهُ مَاءَ صَاحِبهِ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ "، قَالَ : صَدَقْتَ.
فَأَسْلَمَ ابْنُ صُوريَّا حِينَئِذٍ وَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ مَنْ يَأْتِيكَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ بالْوَحْيِ ؟ قَالَ :" جِبْرِيْلُ " قَالَ : صِفْهُ لِي، قَالَ : فَوَصَفَهُ لَهُ النَّبيُّ ﷺ، فَقَالَ : أشْهَدُ أنَّهُ فِي التَّوْرَاةِ كَمَا قُلْتَ، وَإنَّكَ رَسُولُ اللهِ، فَلَمَّا أسْلَمَ ابْنُ صُوريَّا شَتَمُوهُ ".


الصفحة التالية
Icon