قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ ﴾ ؛ أي إنَّا أنزَلنا التوراةَ على موسى فيها بيانٌ من الضَّلالة ونُورٌ لمن آمَنَ به، يقضي بها النبيُّون الذين أخلَصُوا، وهذه صفةُ الأنبياءِ ؛ لا أن فيهم مَن لم يخلِصْ، كما يقال : صلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ وعلى آلهِ الطيّبين، لا يرادُ بذلك أنَّ في أهلهِ غيرَ طيِّب.
والمرادُ بالنبيِّين مُوسَى وعيسى ومُحَمَّدٍ ﷺ وغيرُهم من الذين كانوا من وقتِ موسى إلى وقت نبيِّنا عليهم السَّلامُ. ويقال أرادَ بالنَّبيِّين مُحَمَّداً ﷺ فإنه كان كالنائب عن أنبياء بني إسرائيلَ في أنْ يحكُمَ في الزِّنا بينهم بحُكمِ التوراةِ.
وَقِيْلَ : معنى ﴿ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ ﴾ أي انقَادُوا لأحكامِ الله لا على أنَّ غيرَهم من النبيِّين لم يكونوا مُسلمين. وَقِيْلَ : معنى (أسْلَمُوا) أي صَارُوا إلى السَّلامةِ، كما يقال : أصْبَحُوا وَأمْسَوا : وادَّخَلُوا في الصَّباح والمساءِ. وَقِيْلَ : معناهُ : الَّذِين أسْلَمُوا أنفُسَهم إلى اللهِ. " كما رُوي أنَّ النبيَّ ﷺ كان يقولُ إذا آوَى إلَى فِرَاشِهِ :" أسْلَمْتُ نَفْسِي إلَيْكَ " قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿ لِلَّذِينَ هَادُواْ ﴾ يعني لليهودِ، وَقِيْلَ : معنى الآيةِ : للذين تَابُوا من الكفرِ، كما في قوله تعالى :﴿ وَإِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ ﴾[الأعراف : ١٥٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالرَّبَّانِيُّونَ ﴾ ؛ هم العُلماء العامِلون، يَرُبُّونَ العلمَ ؛ أي يقُومون به، ﴿ وَالأَحْبَارُ ﴾ ؛ سائرُ العلماء دون الأنبياءِ والربَّانيِّين، وإنما سُمي العالِمُ حَبراً لكثرةِ ما يكتبُ بالحبرِ، ويقال : هو مِن التحبيرِ وهو تحسينُ العلمِ، وتقبيحُ الجهلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ ﴾ ؛ من الرَّجمِ وسائر الأحكامِ، ﴿ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ ﴾ ؛ إنه كذلك، ومعنى (اسْتُحْفِظُوا) : استَودَعُوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ﴾ ؛ خطابٌ لعلماء اليهودِ ؛ أي لا تخشَوُا السَّفلةَ والْجُهَّالَ في إظهار نعت النبيِّ ﷺ وآيةِ الرَّجم، واخشَوا عِقَابي في كتمانِها، ﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ ؛ أي لا تختَارُوا عَرَضاً يَسيراً من الدُّنيا، فإن الدُّنيا ما فيها قليلٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ ﴾ ؛ ذهبَ الخوارجُ إلى أنَّ معنى الآيةِ :(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بمَا نَزَّلَ اللهُ وَحَكَمَ بخِلاَفِهِ كَانَ كَافِراً بفِعْلِ ذلِكَ، اعْتِقَاداً كَانَ أوْ غَيْرَ ذلِكَ)، وَكَفَّرُوا بذلك كلَّ مَن عصَى اللهَ تعالى بكبيرةٍ أو صغيرة، وأدَّاهم ذلك إلى الضَّلال والكُفرِ تكفيرِهم الأنبياءَ صلواتُ الله عليهم بصغائرِ ذُنوبهم!
وأما عامَّةُ أهلِ الإسلام قالوا : إن المرادَ بهذه الآية : أنَّ مَنْ جَحَدَ شيئاً مما أنزلَ اللهُ مثلَ ما فعلَهُ اليهودُ من التحريفِ والتبديل وإنكار بعض آياتِ الله تعالى، ﴿ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ ؛ أي أهلُ هذه الصِّفة بمنزلةِ الكافر بالكُتب وبالرُّسل كلِّها.
يدلُّ على هذا أنه لا خلافَ أنَّ مَن لم يَقْضِ بينهم بما نزَّلَ اللهُ لا يكفرُ بأنْ لم يحكُمْ ؛ لأنَّ أكثرَ الناس بهذه الصِّفةِ، والحاكمُ بين الناس في كثيرِ حالاته لا يحكمُ، فإذا صَلُحَ الخوارجُ أن يَزِيدُوا في ظاهرِ اللفظ فيقولوا معناهُ :(مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بمَا نَزَّلَ اللهُ وَحَكَمَ بِخِلاَفِهِ) صَلُحَ لغيرِهم أن يقولوا معناهُ : ومَن لم يحكُمْ بصحَّة ما نزَّلَ اللهُ ﴿ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾، وهذا عامٌّ في اليهودِ وغيرهم.