قَوْلُهُ عَزَّ وَجّلَّ :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(نزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي الْجِرَاحَاتِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَبَنِي النَّضِيرِ، كَانَ لِبَنِي النَّضِيرِ مَقْتَلٌ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَالَدِّيَةُ وَالدَّمُ ضِعْفُ مَا كَانَ لِبَني قُرَيْظَةَ) فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ.
ومعناها : وأوحَينا على بني إسرائيلَ في التَّوراة :﴿ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ يعني أن نفسَ القاتلِ بنفسِ المقتول وَفاءً، ﴿ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ﴾ بفَقْئِهِمَا، ﴿ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ ﴾ يُجدع بهِ، ﴿ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ ﴾ يُقطَعُ به ﴿ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ﴾ يُقلَعُ بهِ، وخفَّفَ نافعُ الأُذُنَ في جميعِ القرآن، وثقَّلَهُ غيرهُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾ ؛ أي يجزئُ فيها القصاصُ، والقِصَاصُ : عبارةٌ عن الْمُسَاوَاةِ، وهذا مخصوصٌ فيما يُمكن القِصَاصُ فيه، فأمَّا ما كان من رضَّةٍ أو هَشْمَةٍ لعظمٍ، وهذه ركنٌ لا يحيطُ العلمُ به، ففيه أرْشٌ أو حكومةٌ.
قرأ الكسائيُّ :(وَالْعَيْنُ) رَفعاً إلى آخرهِ، وكذلك قولهُ (وَالْجُرُوحُ) رفعَهُ ابنُ كثير وأبو عمرٍو وابنُ عامرٍ، ونصَبُوا سائرَ الحروفِ قبلَهُ، قالوا : لأَنَّ لَهَا نَظَائِرَ فِي الْقُرْآنِ ؛ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾[التوبة : ٣] و﴿ إِنَّ الأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾[الأعراف : ١٢٨] و﴿ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ ﴾[الجاثية : ٣٢]. وقرأ نافعُ وعاصم وحمزة وخلفُ كلها بالنصب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ ؛ أي مَن عفَا عن مَظْلَمَةٍ في الدُّنيا، فهو كفَّارةٌ للجراحِ لا يؤاخَذُ به في الآخرة، كما أنَّ القصاصَ كفَّارةٌ له، وأما أجرُ العَافِي فعلى اللهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾[الشورى : ٤٠] وهذا قولُ إبراهيم ومجاهد وزيد بن أسلم، وروايةٌ عن ابنِ عباس.
وَقِيْلَ : معناهُ : فهو كفَّارة للمجروحِ وولِيِّ القتيلِ، وهو قولُ ابنِ عمرَ والحسن والشعبي وقتادة وجابر بن زيد. ودليلُ هذا قولهُ ﷺ :" مَنْ تَصَدَّقَ مِنْ جَسَدِهِ بشَيْءٍ كَفَّرَ اللهُ بقَدْرهِ مِنْ ذُنُوبهِ " فمَن عفا كان عفوهُ كفارةً لذُنوبِه يعفو عنه الله ما أسلفَ من ذُنوبه، وأما الكافرُ إذا عفَا لا يكون عفوهُ كفارةً له مع إقامتهِ على الكفر. وقال ﷺ :" مَنْ أُصِيبَ بشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ فَتَرَكَهُ للهِ كَانَ كَفَّارَةً لَهُ "
ورُوي : أنَّ رجلاً طَعَنَ رَجُلاً على عهدِ معاويةَ رضي الله عنه ؛ فأعطَوهُ دِيَتَيْنِ على أن يرضَى، فلم يَرْضَ، فحدَّث رجُلاً من أصحاب رسول الله ﷺ أنه قالَ :" مَنْ تَصَدَّقَ بدَمٍ فَمَا دُونَهُ كَانَ كَفَّارَةً لَهُ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إلَى يَوْمِ تَصَدَّقَ بهِ " فَتَصَدَّقَ بهِ. وقال ﷺ :