قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ﴾ ؛ أي ما المسيحُ إلاَّ رسولٌ من رُسُلِ اللهِ، فإنَّ إبراءَ الأَكْمَهِ والأبرصِ، وإتيانهِ بالمعجزات كما أتَى موسَى بالمعجزاتٍ ؛ أي الآياتِ، وكما أتَى إبراهيمُ عليه السلام وغيرهما من الأنبياءِ، فلو وَجبت عبادةُ الأنبياءِ لظهور المعجزاتِ عليه لوجبت عبادةُ سائرِ الأنبياء واتخاذُهم آلهةً بسبب المعجزات، ﴿ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ﴾ ؛ أي كَثيرَةُ الصِّدق والتصدُّقِ، وذلك أنَّ جبريلَ عليه السلام أتَاها فقالَ لها : إنَّمَا أنَا رَسُولُ رَبكِ ؛ فصدَّقَتْهُ، كما قال تعالى :﴿ وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا ﴾[التحريم : ١٢].
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ ﴾ ؛ بيانُ أنَّهما كانا مُحدَثَين محتاجَين، وهذا احتجاجٌ بيِّنُ على القومِ في أنه لم يكن إلَهاً ؛ لأنَّ اللهَ تعالى وَصَفَهُ في الآيةِ بصفاتٍ تُنافِي الآلهيَّة، منها : أنَّهُ رسولٌ بعدَ أن لم يكُنْ، ومنها : أنه كسائرِ الرُّسل فيما ظَهرت منه وعليه، ومنها : أنه مولودٌ من أمٍّ، ومنها : أنَّهما كَانا يعِيشان بالغداءِ كما يعيشُ سائر الآدميِّين، وكيف يكون إلَهاً مَن تكون حياتهُ بالحيلةِ ولا يقيمهُ إلاّ أكلُ الطعامِ.
ومنها ما قالوا : إنَّ أكلَ الطعامِ في الآية كنايةٌ عن قضاءِ الحاجة ؛ لأن الذي يأكلُ الطعامَ لا بدَّ له من قضاءِ الحاجة. فكلُّ هذه الصفاتِ دلالةٌ على كونهِ عَبداً مخلوقاً مربُوباً مستحيلاً أن يكون إلَهاً قَديماً، تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوّاً كَبيراً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ﴾ ؛ أي انظُرْ يا مُحَمَّدُ كيف نبيِّنُ لهم العلاماتِ في أمر عيسَى أن لم يكُنْ إلَهاً ولا ابناً له ولا ثالثَ ثلاثةٍ، ﴿ ثُمَّ انْظُرْ ﴾ ؛ يا مُحَمَّدُ، ﴿ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ ؛ أي مِن أين يُصرَفون عن الحقِّ الواضح إلى الباطلِ.
وَالإفْكُ : هو الصَّرْفُ، كلُّ شيء صَرَفْتَهُ فهو مأْفُوكٌ، تقولُ : أفَكْتُهُ عَنْهُ أفَكَهُ إفكاً، ويسمَّى الكذبُ إفْكاً ؛ لأنه يصرفُ عن الحقِّ.