قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ ؛ قال عبدُالله بن مسعودٍ :(مَرَّ جَمَاعَةً مِنَ المُشْرِكِينَ برَسُولِ اللهِ ﷺ وَعِنْدَهُ صُهَيْبُ وخَبَّابُ بْنُ الأَرَتِّ وَبلاَلُ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُُسْلِمِيْنَ ؛ فَأَرَادُواْ الْحِيْلَةَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ لِيَطْرُدُواْ أصْحَابَهُ، فَقَالُواْ : يَا مُحَمَدَّ، لَوْ طَرَدْتَ هَؤُلاَءِ السَّفَلَةَ وَالْعَبِيْدَ عَنْكَ أتَاكَ أشْرَافُ قَوْمِكَ وَرُسَاؤُهُمْ يَسْتَمِعُونَ مَقَالَتَكَ وَيُصَدِّقُونَكَ، وَذكَرُواْ ذلِكَ أيْضاً لِعُمَرَ رضي الله عنه، فَذكَرَ ذلِكَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ حِرْصاً عَلَى إسْلاَمِ أشْرَافِ قَوْمِهِ، فَهَمَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ أنْ يَفْعَلَ بَعْضَ الَّذِي طَلَبُوهُ، فأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). يعلِّمُه أنه لا يجبُ أن يفضِّل غَنِياً ولا شريفاً على فقيرٍ وضعيف ؛ لأن طريقَهُ فيما أُرْسِلَ به الدِّيْنُ دون أحوالِ الدُّنيا.
فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ﴾ أي يعبدون ربَّهم بالصلاةِ المفروضة غُدُوّاً وعَشِيّاً وهم ضَعَفَةُ الصحابةِ وَصَفَهُمُ اللهُ بالمواظبة على عبادتهِ في طرفَي النَّهارِ ؛ ثُم شهِدَ لَهم أنَّهم مخلصون في الإِيْمانِ بقولهِ :﴿ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ أي يريدون وجهَ اللهِ تعالى بذلك ؛ ويطلبون رضَاهُ. وذكرَ الوجهَ على سبيلِ التفخيم كقولهِ تعالى :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾[القصص : ٨٨]. معناهُ : إلاَّ هُو.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ ﴾ ؛ أي ما عليكَ مِن حساب عملِهم وباطنِ أمرهم من شيء، ﴿ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ ﴾ ؛ أي مَا عليهم من باطِن أمرِكَ شيءٌ ولا يُسْأَلُونَ عن عملِكَ ولا تسألْ أنتَ عن عملِهم.
وقيل : معناهُ : ما عليكَ من رزقِهم من شيءٍ، وما مِن رزقِكَ عليهم من شيءٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَتَطْرُدَهُمْ ﴾ ؛ جوابُ ﴿ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم ﴾. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَتَكُونَ ﴾ ؛ جوابُ ﴿ وَلاَ تَطْرُدِ ﴾. ﴿ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾، ومعناهُ : فتكون من الضارِّين لنفسكَ أن لو طردتَهم.
وتقديرُ الآية : وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ، مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابهِمْ مِْن شَيْءٍ، وَمَا مِنْ حِسَابكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ، فَتَطْرُدَهُمْ. وقال سلمانُ وخبَّاب :(فِيْنَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ، فَجَاءَ الأَقْرَعُ بْنُ حَابسٍ التَّمِيْمِيُّ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حُصَيْنِ الْفَزَّاريّ وَأصْحَابُهُمْ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ، فَوَجَدُواْ النَّبِيَّ ﷺ قَاعِداً مَعَ بلاَلٍ وَصُهَيْبَ وَعَمَّارِ وَخَبَّابٍ فِي نَاسٍ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِيْنَ، فَلَمَّا رَأوْهُمْ حَوْلَهُ حَقَّرُوهُمْ ؛ وَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ ؛ لَوْ جَلَسْتَ فِي صَدْر الْمَسْجِدِ، وَنَفَيْتَ عَنَّا هَؤُلاَءِ وَرَائِحَةَ جِبَابهِمْ لَجَالَسْنَاكَ وَحَادَثْنَاكَ وَأخَذْنَا عَنْكَ. وَكَانَ عَلَيْهِمْ جِبَابٌ مِنْ صُوفٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ غَيْرُهَا.
فَقَالَ ﷺ :" مَا أَنَا بطَاردِ الْمُسْلِميْنَ " فَقَالُواْ : إنَّا نُحِبُّ أنْ تَجْعَلَ لَنَا مَجْلِساً تَعْرِفُ الْعَرَبُ بهِ فَضْلَنَا، فَإنَّ وُفُودَ الْعَرَب تأْتِيْكَ ؛ فَنَسْتَحِي أنْ تَرَانَا الْعَرَبُ مَعَ هَؤُلاَءِ الأَعْبُدُ، فَإِذا نَحْنُ جِئْنَاكَ فَأَقِمْهُمْ عَنَّا، فَإذا نَحْنُ قُمْنَا فَأْقْعِدْهُمْ مَعَكَ إنْ شِئْتَ.