قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ﴾ ؛ أي وَزْنُ الأعمالِ يومَ القيامة الحقُّ ؛ لا يُنْقَصُ من إحسان مُحْسِنٍ ؛ ولا يُزَادُ على إساءَةِ مُسِيْءٍ. وقال مجاهدُ :(مَعْنَاهُ : وَالْقَضَاءُ يَوْمَئِذٍ الْعَدْلُ).
قولهُ :﴿ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ ؛ أي مَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ على سيِّئاتِه فأولئكَ همُ الظَّافِرُون بالمرادِ، ﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ﴾ أي رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ على حسناتهِ، ﴿ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُم ﴾ عَمَواْ حَظَّ أنفسِهم، ﴿ بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ ﴾ ؛ أي بما كانوا بمُحَمَّدٍ ﷺ يَجْحَدُونَ. فَالْخُسْرَانُ : ذهَابُ رَأسِ الْمَالِ ؛ ورأسُ مالِ الإنسان نفسُه ؛ فإذا هَلَكَ بسوءِ عمله فقد خَسِرَ نفسَه.
وقد تكلَّموا في ذِكْرِ الموازينِ يومَ القيامة ؛ قال ابنُ عبَّاس :(تُوزَنُ الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ فِي مِيْزَانٍ لَهُ لِسَانٌ وَكَفَّتَان تُوضَعُ فِيْهِ أعْمَالُهُمْ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنَ فَيُؤْتَى بعَمَلِهِ فِي أحْسَنِ صُورَةٍ ؛ فَيُوضَعُ فِي كَفَّةِ الْمِيْزَانِ ؛ فَتَثْقُلُ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ ؛ فَيُوضَعُ عَمَلُهُ فِي الْجَنَّةِ عِنْدَ مَنَازِلهِ ؛ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : إلْحَقْ بعَمَلِكَ ؛ فَيَأْتِي مَنَازِلَهُ فِي الْجَنَّةِ فَيَعْرِفُهَا بَعمَلِه.
وَأمَّا الْكَافِرُ ؛ فَيُؤْتَى بعَمَلِهِ فِي أقْبَحِ صُورَةٍ ؛ فَيُوضَعُ فِي كَفَّةِ الْمِيْزَانِ ؛ فَيَخِفُّ - وَالْبَاطِلُ خَفِيْفٌ - ثُمَّ يُرْفَعُ فَيُوضَعُ فِي النَّارِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : إلْحَقْ بَعَمِلكَ ؛ فَيَلْحَقُ فَيَأْتِي مَنَازِلَهُ فِي النَّار).
وَقِيْلَ : إنَّ المرادَ بالعملِ في هذا الخبرِ أنَّ الله يجعلُ للحسناتِ صورةً حسَنةً ؛ وللسيِّئاتِ صورةً قبيحةً، إلاَّ أن عَيْنَ الأعمالِ تُوزَنُ ؛ لأنَّ الأعمال أعراضٌ مُنْقَضِيَةٌ لا تُعَادُ. وقال ابنُ عمر :(يُؤْتَى بصُحُفِ الطَّاعَاتِ وَصُحُفِ الْمَعَاصِي، فُتُوزَنُ الصُّحُفْ).
وعن رسول اللهِ ﷺ أنهُ قالَ :" يُؤْتَى بالْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى الْمِيْزَانِ، ثُمَّ يُؤْتَى بتِسْعَةٍ وَتِسْعِيْنَ سِجِلاً ؛ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَدَّ الْبَصَرِ ؛ فِيْهَا خَطَايَاهُ وَذُنُوبُهُ ؛ فَتُوضَعُ فِي كَفَّةِ الْمِيزَانِ، ثُمَّ تُخْرَجُ بطَاقَةً مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ بمِقْدَار أنْمُلَةٍ ؛ فِيْهَا شَهَادَةُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ؛ فَتُوضَعُ فِي الْكَفَّةِ الأُخْرَى. فَيَقُولُ الْعَبْدُ : يا رَب ؛ مَا تَزِنُ هَذِهِ الْبطَاقَةُ مَعَ هَذِه الصَّحَائِفِ؟! فَيَأْمُرُ اللهُ أنْ تُوضَعَ ؛ فإذا وُضِعَتْ فِي الْكَفَّةِ طَاشَتِ الصُّحُفُ وَرَجَحَتِ الْبطَاقَةُ "
وقول بعضُهم : يُوزَنُ الإنسانُ، كما قال ﷺ :" يُؤْتَى بالرَّجُلِ الأَكُولِ الشَّرُوب الْعَظِيْمِ فَيُوزَنُ ؛ فَلاَ يَزِنُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ؛ إقْرَأوا إنْ شِئْتُمْ :﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ﴾ " [الكهف : ١٠٥].
وأما ذِكْرُ الموازينِ بلفظ الجماعة ؛ فلأنَّ الميزانَ يشتملُ على الكفَّتين والخيوطِ والشاهدين. فإن قِيْلَ : ما الحكمةُ في وزنِ الأعمال، واللهُ قادرٌ عالِمٌ بمقدار كلِّ شيء قبلَ خَلْقِهِ إيَّاهُ وبعدَه ؟ قِيْلَ : لإقامةِ الحجَّة عليهم، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾[الجاثية : ٢٩] فأخبرَ بنسخِ الأعمال وإثباتِها مع عِلْمِهِ بها لِما ذكرنا. وَقِيْلَ : الحكمةُ فيه تعريفِ الله العبادَ ما لَهم عندهُ من جزاءٍ على الخير والشرِّ. وَقِيْلَ : جعلهُ الله علامةً للسعادة والشقاوَةِ. وَقِيْلَ : لامتحانِ الله عبادَهُ بالإيْمان به في الدُّنيا.


الصفحة التالية
Icon