قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(مَعْنَاهُ : أنَّ إبْلِيْسَ قَالَ : لآتِيَنَّهُمْ مِنْ قِبَلِ آخِرَتِهِمْ ؛ فَلأُخْبرَنَّهُمْ أنَّهُ لاَ جَنَّةَ وَلاَ نَارَ، وَلاَ بَعْثَ وَلاَ حِسَابَ). ﴿ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ﴾ ؛ أي مِنْ قِبَلِ دُنياهم ؛ فَلآمُرَنَّهُمْ بجَمْعِ المالِ مخافةَ الفقرِ وأن لا يؤدوا حقَّهُ، ﴿ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ ﴾ ؛ أي مِنْ قِبَلِ دِينهم فَأُبَيِّنَ لَهم ضَلالَتهُم، وإنْ كانُوا على هُدًى شَبَّهْتُهُ عليهم حتى أُخرِِجَهم منهُ، ﴿ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ ﴾ ؛ أي مِنْ قِبَلِ اللَّذاتِ والشَّهواتِ فأُزَيِّنُهَا لَهم، ﴿ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ ؛ لِنِعْمَتِكَ.
وقال السُّدِّيُّ :(مَعْنَى :﴿ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ﴾ أرَادَ الدُّنْيَا أُغْوِيْهِمْ إلَيْهَا، ﴿ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ﴾ فمِنَ الآخِرَةِ أشَكِّكُهُمْ فِيْهَا وأبعِدُها عَلَيْهِم، ﴿ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ ﴾ قَالَ : الْحَقُّ أُشَكِّكُهُمْ فِيْهِ، ﴿ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ ﴾ قالَ : الْبَاطِلُ أُخْفِيْهِ عَلَيْهِمْ وأُرَغِّبُهُمْ فِيْهِ).
وَقِيْلَ : أرادَ بقولِه ﴿ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ ﴾ من جهةِ الحسنات أغْفَلَهُمْ عنها، ﴿ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ ﴾ يعني من جهةِ السيِّئات، فإنَّ الحسناتِ تُضَاف إلى اليمينِ، والسيِّئاتِ تُضافُ إلى الشمالِ. وَقِيلَ : معنى الايةِ : ثم لأَحْتَالَنَّ في إغوائِهم من كلِّ وجهٍ. قال قتادةُ :(أتَاكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، غَيْرَ أنَّهُ لاَ يَسْتَطِيْعُ أنْ يَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ رَحْمَةِ رَبكَ، إنَّمَا تَأْتِيْكَ الرَّحْمَةُ مِنْ فَوْقِكَ).
وقال شقيقُ بنُ إبراهيمَ :(مَا مِنْ صَبَاحٍ إلاَّ قَعَدَ لِي الشَّيْطَانُ عَلَى أرْبَعَةِ مَرَاصِدَ : مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِيْنِي، وَعَنْ شِمَالِي. أمَّا مَا بَيْنَ يَدَيَّ ؛ فيَقُولُ لِي : لاَ تَحْزَنْ فإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيْمٌ، فَأَقُولُ : ذلِكَ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى.
وَأمَّا مِنْ خَلْفِي ؛ فَيُخَوِّفُنِي الضَّيْعَةَ عَلَى ذُرِّيَّتِي وَمَنْ خَلْفِي، فَأَقُولُ : وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلاَّ عَلَى اللهِ رزْقُهَا. وأمَّا مِنْ قِبَلَ يَمِيْنِي ؛ فَيَأْتِيَنِي مِنْ قِبَلِ النِّسَاءِ، فَأَقُولُ : وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. وأمَّا مِنْ قِبَلِ شِمَالِي ؛ فَيَأْتِيَنِي مِنَ اللَّذاتِ وَالشَّهَوَاتِ، فأَقُولُ : وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ).
وإنَّما ذكر (مِنْ) في قولهِ :﴿ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ﴾ وذكرَ (عَنْ) في قولهِ :﴿ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ ﴾ لأن القدَّامَ والخلفَ يكونُ لابتداءِ الغاية، والغايةُ تذكرُ بحرفِ (مِنْ). وأمَّا جهةُ اليمينِ والشمال فإنَّها تكون للانحرافِ، فذكرَها بـ (عَنْ).
فإن قِيْلَ : مِنْ أينَ عَلِمَ إبليسُ أنه لا يكونُ أكثرُهم شاكرينَ ؛ أي أكْثَرُ الناسِ شاكرينَ ؟ قِيْلَ : إنَّهُ ظَنَّ بهم ظَنّاً، فوافقَ ظَنُّهُ مَظْنُونَهُ، كما قالَ : تعالَى :﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ﴾[سبأ : ٢٠]. وإنَّما ظَنَّ ذلكَ ؛ لأنه لَمَّا تَمَكَّنَ من اسْتِزْلاَلِ آدمَ وحوَّاء ؛ عَلِمَ أنَّ أولادَهما أضعفُ منهما، فيكون تَمَكُّنُهُ منهم أكثرُ.


الصفحة التالية
Icon