قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَابَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ ﴾ ذلك أنَّ أهلَ الجاهليَّةِ كانوا يطُوفُونَ بالبيتِ عُرَاةً ويقولون : لاَ نطوفُ في الثياب التي أذْنَبْنَا فيها ودَنَّسْنَاهَا بالذنوب، فكانتِ المرأةُ منهم تَطُوفُ بالبيتِ عَرْيَانَةً باللَّيْلِ، إلا أنَّهَا كانت تَتَّخِذُ سُيُوراً مُقَطَّعَةً تُشَدُّ في حِقْوَيْهَا، فكانت السُّيُورُ لا تسترُها سِتْراً تامّاً.
قال المفسِّرون : كانت بنُو عامرٍ في الجاهليَّة يفعلونَ ذلك، كان رجالُهم يطوفون عراةً بالنَّهار، ونساؤُهم ليلاً. وحُكِيَ أنَّ امرأةً كانت تطوفُ عريانةً وهي تقولُ : الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أوْ كُلُّهُ فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلاَ أُحِلُّهُوكانوا إذا قَدِمُوا منهُ طََرَحَ أحدُهم ثيابَه في رجلهِ، فإن طافَ وهي عليه ضُرِبَ وانْتُزِعَتْ منهُ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ :﴿ يَابَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ يعني الثِّيَابَ. وقال مجاهدُ :(يَعْنِي : مَا يُوَارِي عَوْرَتُكُمْ وَلَوْ عَبَاءَةً).
وقال الكلبيُّ :(كَانَتْ بَنُو عَامِرٍ لاَ يَأْكُلُونَ مِنَ الطَّعَامِ إلاَّ قُوْتاً، وَلاَ يَأْكُلُونَ دَسِماً فِي أيَّامِ حَجَّهِمْ، يُعَظِّمُونَ بذلِكَ حَجَّهُمْ. وَكَانَتْ قُرَيْشُ وَكِنَانَةُ يَفْعَلُونَ. فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : يَا رَسُولَ اللهِ، نَحْنُ أحَقُّ أنْ نَفْعَلَ ذلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى :﴿ يَابَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ ﴾. ﴿ وَلاَ تُسْرِفُواْ ﴾ ؛ أي الْبَسُوا ثيابَكم عندَ كلِّ مسجدٍ، وكُلُوا اللَّحْمَ والدَّسِمَ، واشربُوا من ألبانِ السَّوائبِ والبَحَائِرِ، ﴿ وَلاَ تُسْرِفُواْ ﴾ أي لا تُجَاوِزُوا تحريْمَ ما أحلَّ اللهُ لكم.
والإِسْرَافُ : مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ ؛ فتارةً تكون مجاوزةُ الحلالِ إلى الحرام ؛ وتارةً تكونُ مجاوزةُ الحدِّ في الإنفاقِ ؛ وتارةً تكونُ بأنْ يأكلَ الإنسانُ فوقَ الشَّبَعِ فيؤدِّي به ذلكَ إلى الضَّرر.
ويروى : أنَّ هَارُونَ الرَّشِيْدَ كان له طبيبٌ نصرانِيٌّ حاذقٌ، فقال لعليِّ بن الحسين ابن واقدٍ : ألَيْسَ في كتابكم من علمِ الطب شيءٌ ؟ والعلمُ عِلمان : علمُ الأديانِ وعلمُ الأبدانِ، فقالَ لهُ : إنَّ اللهَ تعالى قد جَمَعَ الطبَّ كلُّه بنصفِ آيةٍ من كتابنا. وقال : ومَا هِي ؟ قال : قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ ﴾. وفقال النصرانِيُّ : هل يُؤْثَرُ عن رسولِكم شيءٌ من الطب ؟ قال : نَعَمْ ؛ جمعَ رسولُنا ﷺ الطبَّ في ألفاظٍ يسيرة. قال : وما هيَ ؟ قال : قَوْلُهُ :" الْمَعِدَةُ بَيْتُ الدَّاءِ، وَالْحِمْيَةُ رَأسُ كُلِّ دَوَاءٍ، وَعَوِّدُواْ كُلَّ جِسْمٍ مَا اعْتَادَ " فقال النصرانِي : ما تركَ كتابُكم ولا نبيُّكم لجالينوسَ طِبّاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ ؛ أي لا يرضَى عملَهم، ولا يُثْنِي عليهم : فلما نَزَلَتْ هذه الآيةُ طََافَ المسلمونَ في ثيابهم، وأكلُوا اللَّحمَ والدسمَ، فعيَّرهُم المشركون بذلكَ، فأنزلَ اللهُ :
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾ أي قُلْ لَهم يَا مُحَمَّدُ : مَن حَرَّمَ الثيابَ التي يَتَزَيَّنُ بها الناسُ، ومَنْ حَرَمَّ المستلذاتِ من الرِّزْق ؟ ويقالُ : أرادَ بالطيِّباتِ : الحلالَ من الرَِّزْقِ، وفي قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ أمرٌ للإنسانِ أن يَلْبَسَ أحسنَ ثيابهِ في الأعيادِ والْجُمَعِ.