قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ﴾ ؛ معناه : فأعرضَ صالحُ عنهم حين عَقَرُوا الناقَةَ، وعرفَ أنَّ العذابَ يأتيهم وقال : يَا قَوْمِ لَقَدْ أبْلَغْتُكُمْ رسَالَةَ رَبي وَنَصَحْتُ لَكُمْ في أداءِ الرِّسالةِ إليكُم، ﴿ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ﴾ ؛ أي مَنْ يَنْصَحُ لَكُمْ.
قال ابنُ عبَّاس :(فَخَرَجَ صَالِحُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ ؛ وَهُمْ مِائَةٌ وَعَشْرَةٌ ؛ حَـَّى إذا فَصَلَ مِنْ عِنْدِهِمْ وَهُوَ يَبْكِي، الْتَفَتَ خَلْفَهُ فَرَأى الدُّخَانَ سَاطِعاً، فَعَرَفَ أنَّ الْقَوْمَ قَدْ هَلَكُواْ، وَكَانَ عَدَدُهُمْ ألْفاً وَخَمْسَمِائَةٍ. فَلَمَّا هَلَكُوا رَجَعَ صَالِحُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ، فَسَكَنُوا دِيَارَهُمْ حَتَّى تَوَالَدُوا وَمَاتُوا فِيْهَا).
فإن قِيْلَ : قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ ﴾ عطفٌ على قوله :﴿ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾[الأعراف : ٧٨] ؛ فكيف تكونُ الصَّيْحَةُ بعد هلاكِهم ؟ قِيْلَ : إنَّ الفاءَ في قوله :﴿ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ ﴾ للتَّعْقِيْب والإخبار لا لِتَرَادُفِ الحالِ، وهذا راجعٌ إلى حالِ عَقْرِهِمْ الناقةَ، لكنَّ الله ساقَ القِصَّةَ في أمرِهم إلى آخرها، ثم عَطَفَ على ذلكَ ما فعلَهُ صالِحُ للكشفِ عن عُذْرهِ في مسألةِ إنزال العذاب بهم بعدَ كَثْرَةِ نُصْحِهِ لَهم وإصرارهم على فعلهم. وجوابُ إخوانهِ لا يَمْنعُ أنَّ صالِحاً قالَ هذا القولَ بعد هلاكِ القومِ لِيَعْتَبرَ بذلكَ مَن كانَ معهُ من المؤمنينَ.
فَصْلٌ : وقصَّتُهم ما حكاهُ السُّدِّيُّ وغيرهُ :(أنَّ عاداً لَمَّا هلكت عَمَّرَتْ ثَمُودُ بعدَها، واستُخْلِفُوا في الأرضِ، فَنَزلُوا فيها وكَثُرُوا، وكانوا في سَعَةٍ من عيشِهم، فَعَتَوا على اللهِ، وأفسَدُوا في الأرضِ وعَبَدُوا غيرَ اللهِ، فبعثَ اللهُ إليهم صالِحاً من أوْسَطِهِمْ نَسَبً، فدعاهُم إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حتى شَمَطَ وَكَبرَ ولا يَتْبَعُهُ منهم إلا قليلٌ مستضعفونَ.
فلما ألَحَّ عليهم في الدُّعاء والتَّخويفِ سألوه أنْ يُرِيَهُمْ آيةً تكونُ مِصْدَاقاً لقولهِ، فقال لَهم : أيُّ آيةٍ تريدون ؟ فأشارُوا له إلى صخرةٍ منفردة من ناحية الْحِجْرِ، وقالوا لهُ : أخْرِجْ لنا من هذه الصَّخْرةِ ناقةً جَوْفَاءَ عَشْرَاءَ، فإنْ فَعَلْتَ آمَنَّا بكَ وصدَّقناكَ.
فأخذ عليهم صالِحُ عليه السلام المواثيقَ، فَفَعَلُوا، فصلَّى رَكعتين ودَعَا رَبَّهُ، فَتَمَخَّضَتِ الصخرةُ تَمَخُّضَ النَّتُوجِ بولدِها، ثم تَحَرَّكَتْ وانصدعَتْ عن ناقةِ عَشْرَاءَ جَوْفَاءَ، كما وَصَفُوا وهم ينظرون، ثم نَتَجَتْ سقياءَ مِثْلَهَا في الْعِظَمِ، فلمَّا خرجت الناقةُ قال لَهم صالِحُ : هذه ناقةٌ لها شِرْبٌ ولكم شِرْبٌ يَوْمٍ معلومٍ.
فمكثَتِ الناقةُ ومعها سَقبُها في أرضِ ثمود ترعَى الشَّجَرَ وتشربُ الماءَ، فكانت تَرِدُ الماءَ غِبّاً، فإذا كان يومُها وضعت رأسَها في بئرٍ يقال لها بئْرُ النَّاقَةِ، فما ترفعُها حتى قد شَرِبَتْ كلَّ ما فيها، لا تدعُ قطرةً واحدة، ثم ترفعُ رأسَها فَتَنْفَشِجُ كما تَنْفَحِجُ لَهم، فيحلبونَ ما شاءُوا من لَبَنِهَا، فيشربون ويدَّخِرُون، ويَمْلأُونَ آنِيَتَهُمْ كلَّها، ثم تصدرُ من على الفَجِّ الذي وردت منه ؛ لأنَّها لا تعد أن تصدرَ من ماءٍ تردُ لضيقة.