قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾ ؛ معناهُ : إن عِدَّة الشُّهور التي تتعلَّقُ بها الأحكامُ من الحجِّ والعُمرة والزكاةِ والأعياد وغيرها اثنَا شهراً على منازِل العُمرة، تارةً يكون الحجُّ الصومُ في الشِّتاء، وتارةًّ في الصيفِ على اعتبار الأهِلَّة. وقوله تعالى :﴿ فِي كِتَابِ اللَّهِ ﴾ يعني اللَّوحَ المحفوظَ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾ إنَّما قال ذلِكَ ؛ لأن اللهَ تعالى أجرَى الشمسَ والقمر في السَّموات يوم خلَقَ السمواتِ والأرض.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ﴾ ؛ واحدٌ فَرْدٌ وهو رجَبْ وثلاثةُ سُرْدٌ متتابعةٌ، وهي ذو القعدة وذو الحجَّة والمحرَّّم، سماها حُرُماً لعِظَمِ انتهاكِ حُرْمَتها، كما خُصَّ الْحَرَمُ بمثلِ ذلك، كنت العربُ تُعظِّمُها وتحرِّمُ القتالَ فيها حتى أن الرجلَ لو لَقِيَ قاتل أبيهِ أو أخيه فيها لم يُهجِْهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ ؛ أي في أشهرِ الْحُرُمِ بالعملِ بالمعصية وتركِ الطاعة. وَقِيْلَ : باستحلال القتلِ والغَارَةِ. وَقِِيْلَ : معناهُ : ولا تجعلوا حَلاَلها حَرامً، ولا حرَامها حَلاَلاً، والذنبُ والظلم فيهن أعظمُ من الظلم فيما سواهنَّ. ويقالُ : معناه : فلا تظلِمُوا في الاثني عشرِ الشهر أنُفسَكم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ أي ذلك الحسابُ المستقيم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً ﴾ ويجوزُ أن يكون الكافَّة راجعةً إلى المسلمينَ ؛ أي قاتِلُوا جميعاً، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً ﴾ أي كما يُقاتِلونَكم أي جمعياً. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ ؛ أي معهم بالنُّصرة.
واختلفَ العلماءُ في حُرمةِ القتالِ في الأشهُرِ الْحُرُمِ، فقالَ بعضُهم : لا يجوزُ القتال فيها والغارةُ لأن اللهَ سَمَّاها حُرُماً فيكون قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً ﴾ دَليلاً على جواز القتال فيها على وجهِ الدَّفع.
وذهبَ أبو حنيفةَ وأصحابهُ إلى أن القتالَ فيها جائزٌ، والمرادُ بقوله :﴿ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ﴾ تعظيمُ انتهاكِ حُرمَتِها بالظلمِ والفساد فيها، وتعظيمُ ثواب الطاعة التي يفعلُ فيها. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً ﴾ يدلُّ على أنَّ اللهَ أخرجَ هذه الأشهرَ الحرم من أن تكون حُرماً.
وفي باب الجهادِ دليلاً تقديراً آخر أن أحدَ الجهاد داخلٌ تحت قوله :﴿ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ وكان اللهُ تعالى مَيَّزَ الجهادَ من الظلمِ الذي هو إقدامٌ على النُّفوس والأموالِ، وقوله تعالى :﴿ كَآفَّةً ﴾ منصوبٌ على الحالِ.
قال قتادةُ وعطاء :(كَانَ الْقِتَالُ كَثِ]راً فِي الأشْهُرِ الْحُرُمِ، ثُمَّ نُسِخَ وَأحِلَّ فِيْهِ بقَوْلِهِ :﴿ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً ﴾ يَِعْنِي فِيْهنَّ وَفِي غَيْرِهِنَّ). وقال الزهريُّ :(كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُحَرِّمُ الْقِتَالَ فِي الأَشْهُرِ الْحُرُمِ، مِمَّا أنْزَلَ اللهُ مِنْ تَحْرِيمِ ذلِكَ حَتَّى نَزَلَتْ بَرَاءَةُ، وَأحِلَّ قِتَالُ الْمُشْرِكِينَ).
وقال سفيانُ الثوريُّ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْقِتَالِ فِي الأَشْهُرِ الْحُرُمِ، قَالَ :(لاَ بَأْسَ بالْقِتالِ فِيهِنَّ وَفِي غَيْرِهِنَّ ؛ لأََّ النّبيِّ ﷺ غَزَا هَوَازنَ وَحُنَيْياً وَثقِيفاً بالطَّائِفِ وَحَاصَرَهُمْ فِي الشَّوَّالِ وَبَعْضِ ذِي الْقِعْدَةِ، فَدَلَّ عَلَى أنَّ حُرْمَةَ الْقِتَالِ فِيْهَا مَنْسُوخٌ).