قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ ﴾ ؛ " وذلك أنَّ كفارَ مكَّة لَمَّا أرادُوا قتلَ النبيِّ ﷺ أخبرَهُ جبريلُ بذلك وأمرَهُ بالخروجِ، فقالَ النبيُّ ﷺ لعليٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ :" نَمْ مَكَانِي عَلَى الْفِرَاشِ " وخرجَ مع أبي بكرٍ رضي الله عنه إلى غار جبَلِ ثَورٍ - وهو جبلٌ بأسفلِ مكَّة - ومشَى رسولُ اللهِ ﷺ على أطرافِ أصَابعهِ حتى حَفِيَتْ، فلمَّا رآهُ أبو بكرٍ رضي الله عنه وجعلَ يستندُ به حتى أتَى فمَ الغار، وكان الغارُ مَقرُوناً بالْهَوَامِّ، فلما أرادَ رسولُ اللهِ ﷺ دخولَ الغارِ قال له أبُو بكرٍ رضي الله عنه : مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ حَتَّى أسْتَبْرِئَ الْغَأرَ. فدخلَ واستبرأهُ وجعلَ يُسَوِّي الْجُحْرَةَ بثيابهِ خِشيَةَ أن يخرجَ منها شيءٌ يؤذِي رسولَ الله ﷺ فبَقِيَ جُحْرَانِ فوَضَعَ عَقِبَهُ عليهما ثم قال : إنْزِلْ يَا رَسُولَ اللهِ، فنَزلَ فكانا في الغار ليلتَهما.
فدخلَ الكفِّارُ على عِليٍّ رضي الله عنه فقالوا لَهُ : يا عليُّ أين مُحَمَّدٌ ؟ فقالَ : لاَ أدْري أيْنَ ذهَبَ، فطلبوهُ من الغدِ واستأجَرُوا رجُلاً يقال له كَرْزُ بن علقمةَ الجرَّاح، فَقَفَا لهما الأثرَ حتى انتهَى بهم إلى جبلِ ثَورٍ، فقالَ : انتهينا إلى هنا وهذا أثرهُ فما أدري أينَ أخذَ يَميناً أو شمالاً أو صعدَ الجبلَ، فصَعَدُوا الجبلَ يطلبونَهُ، وأعمَى اللهُ عليهم مكانَهُ فلم يهتَدُوا إليه.
فقامَ رجلٌ منهم يبولُ مستقبلاً رسولَ اللهِ ﷺ وأبَا بكرٍ بعورتهِ، فقال أبُو بكرٍ : يَا رَسُولَ اللهِ مَا أرَاهُ إلاَّ قَدْ أبْصَرَنا، فَقَالَ ﷺ " لَوْ أبْصرَنَا مَا يَسْتَقْبلُنَا بعَوْرَتِهِ ". وأقبلَ شبابُ قريشٍ من كلِّ بطنٍ، معهم عِصِيُّهم وقِسيُّهم حتى رَأوا بابَ الغار، وكان ﷺ مرَّ على ثُمامَةٍ وهي شجرةٌ صغيرة ضعيفة فأمرَ أبا بكرٍ أن يأخُذَها معه، فلما سارَ إلى باب الغار أمرَهُ أن يجعلَها على باب الغار، وألْهَمَ اللهُ العنكبوتَ فنسجَتْ حتى ستَرت وجهَ النبيِّ ﷺ وصاحبَهُ، وبعثَ اللهُ حمامَتين وحشِيَّتين فأقبَلتا حتى وقعتَا على باب الغار بين العنكبوتِ وبين الشجرة، فلما رأى المشركون الشجرة والحمامةَ، ونسجَ العنكبوتِ علِمُوا أنْ ليس في الغار أحدٌ، وكان أبو بكرٍ يقولُ : يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ أتِيْنَا وَمَا أنا إلاَّ رجُلٌ وَاحدٌ، فَإنْ قُتِلْتَ أنْتَ تَهْلَكُ هَذِهِ الأُمَّةُ فَلاَ يُعْبَدُ اللهُ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ، فقال :" لاَ تَحْزَنْ يَا أبَا بَكْرٍ إنَّ اللهَ مَعَنَا ".
ثم نزلَ المشركون من الجبلِ، ولم يقدِرُوا على رسولِ اللهِ ﷺ، فمكثَ رسولُ اللهِ ﷺ بالغارِ ثلاثةَ أيَّامٍ وليالِيهنَّ، وكان عبدُاللهِ بن أبي بكرٍ يأتِيهما بأخبارِ أهل مكَّة، فلما أمِنَا طلبَ " القوم " وكان رسولُ اللهِ ﷺ أُمِرَ بالهجرة إلى المدينةِ، فستأجرَ رجُلاً يقالُ له عبدُالله بن أُرَيقِطْ يَهدِيهم الطريقَ إلى المدينةِ فخرجَ بهما إلى المدينةِ، فسَمِعَ سُراقَةُ بن مالك بن مقسم الكِنَانِي بخرُوجهِ إلى المدينةِ، فلَبسَ لاَمَتَهُ وركِبَ فرسَهُ يتَّبعُ آثارَهم حتى أدركَ رسولَ اللهِ ﷺ، فدعَا عليه رسولُ الله ﷺ فَسَاخَتْ قوائمُ فرسهِ، فقالَ : يَا مُحَمَّدُ أُدْعُ اللهَ أنْ يُطْلِقَ عَلَيَّ فَرَسِي فَأَرْدُّ عَنْكَ مَنْ أرَى مِنْ النَّاسِ، فَقَالَ ﷺ :" اللَّهُمَّ إنْ كَانَ صَادِقاً فَأطْلِقْ فَرَسَهُ " فرجعَ سُراقة وقَدِمَ أبو بكرٍ رضي الله عنه مع النبيِّ ﷺ حتى أتيَا المدينة ".


الصفحة التالية
Icon