قَوْلُهُ تَعَالى :﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس والحسن وجابر بن زيد والزهريُّ ومجاهد :(الْفَقِيرُ الْمُتَعَفِّفُ الَّذِي لاَ يَسْأَلُ النَّاسَ، وَالْمِسْكِينُ الَّذِي يَسْأَلُ). ومعنى الآية : إنَّما الصدقاتُ لهؤلاءِ المذكورين لا للمنافقين.
قال ابنُ عبَّاس :(الْفُقَرَاءُ هُمْ أصْحَابُ الصُّفَّةِ، صُفَّةُ مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، كَانُوا نَحْوَ أرْبَعِمِائَةِ رَجُلٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَنَازِلُ فِي الْمَدِينَةِ وَلاَ عَشَائِرُ، فَأَوَوْا إلَى صُفَّةِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ، يَلْتَمِسُونَ الرِّزْقَ بالنَّهَارِ وَيَأْوُونَ إلَيْهِ باللَّيْلِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أتَاهُمْ بهِ إذا أمْسَواْ). قالَ :(وَالْمَسَاكِينُ هُمُ الطَّوَّافُونَ الَّذِينَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ).
فعلى هذا المسكين أفقرُ من الفقيرِ، ومن الدليلِ على ذلك أنَّ الله قالَ :﴿ لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾[البقرة : ٢٧٣] ثم قال :﴿ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ ﴾[البقرة : ٢٧٣]، ومعلومٌ أن الجاهلَ بحالِ الفقير لا يحسبهُ غَنيّاً إلاَّ وله ظاهرٌ جميل ويدهُ حَسَنةٌ، وقال تعالى :﴿ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ﴾[البلد : ١٦]. قيل في التفسير : الذي قد لَصَقَ بالتُّراب وهو جائعٌ عارٍ ليس بينه وبين التراب شيءٌ يَقيه. وقال أبو العبَّاس ثعلب :(حُكِيَ عَنْ بَعْضِ أهْلِ اللُّغَةِ أنَّهُ قَالَ : قُلْتُ لأَعْرَابيٍّ : أفَقيرٌ أنْتَ ؟ قَالَ : لاَ ؛ بَلْ مِسْكِينٌ. وأنشدَ الأعرابيُّ : أمَّا الْفَقِيرُ الَّتِي كَانَتْ حُلُوبَتُهُ وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُفَسَمَّاهُ فَقِيراً مَعَ وُجُودِ الْحُلُوبَةِ). وقال محمَّد بن مَسلمة :(الْفَقِيرُ الَّذِي لاَ مِلْكَ لَهُ) قال :(وَكُلُّ شَيْءٍ مُحْتَاجٍ إلَى شَيْءٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ)، واحتجَّ مَن قال : إن الفقيرَ أفقرُ من المسكينِ بقوله تعالى :﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ﴾[الكهف : ٧٩] فأضافَ السفينةَ إليهم، وهذا لا دلالةَ فيه لأنه رُوي أنَّهم كانوا فيها أُجَراءَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ﴾، يعني السُّعَاةَ الذين يجلِبون الصَّدقَةَ، ويتوَلَّون قبضَها من أهِلها، يُعطون منها سواءٌ كانوا أغنياءَ أم فقراء، واختلَفُوا في قَدْر ما يُعطَون، قال الضحَّاك :(يُعْطَوْنَ الثُّمُنَ مِنَ الصَّدَقَةِ)، وقال مجاهدُ :(يَأْكُلُ الْعُمَّالُ مِنَ السَّهْمِ الثَّامِنِ)، وقال عبدُالله بن عمرِو بن العاص :(يُعْطَوْنَ عَلَى قَدْرِ عَمَالَتِهِمْ)، وقال الأعمشُ :(يُعْطَونَ بقَدْرِ أُجُور أمْثَالِهِمْ وَإنْ كَانَ أكْثَرَ مِنَ الثُّمُنِ)، وقال مالكُ وأهلُ العراقِ :(إنَّمَا ذلِكَ لِلإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ يُعْطِيهِمُ الإمَامُ قَدْرَ مَا رَأى)، وعن ابنِ عمر :(يُعْطَوْنَ بقَدْرِ عَمَلِهِمْ)، وعند الشافعيِّ :(يُعْطَوْنَ ثُمُنَ الصَّدَقَاتِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ﴾ ؛ هم قومٌ كان يُعطيهم النبيُّ ﷺ يتأَلَِّفُهم على الإسلامِ، كانوا رُؤساءَ في كلِّ قبيلةٍ، منهم أبو سُفيان بن حربٍ من بني أُمَيَّة، والأقرعُ بن حَابسٍ، وعقبةُ بن حصن الفزَّاري وغيرُهما من بني عامرِ بن لُؤي، والحارثُ بن هشامِ المخزوميُّ، وسهيلُ بن عمرو الجمحيُّ من بني أسَدٍ، والعباسُ بن المرداسِ من بني سُليم، فلما توُفِّيَ رسولُ اللهِ ﷺ جاءَ المؤلَّفة قلوبُهم إلى أبي بكرٍ وطلَبُوا منه سَهمَهم، فأمَرَهم أن يكتبُوا كِتَاباً، فجَاؤُا بالكتاب إلى عُمر رضي الله عنه ليشهدَ، فقال عمر : إيْشُ هَذَا ؟ قَالُوا : سَهْمُنَا، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه :