قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ ﴾ ؛ معناهُ : قال لَهم : لا ينفعُكم دُعائِي، وتحذيرِي إيَّاكم إنْ أردتُ أنْ أحذِّرَكم من عذاب الله إنْ كان اللهُ يريدُ أن يُضِلَّكم عن الْهُدَى مجازاةً بعملِكم، فإن إرادةَ اللهِ فوق إرادَتِي، ويكونُ ما يريدُ لا ما أريدُ.
فإن قِيْلَ : كيف يجوزُ أن تكون إرادةُ إبليس موافقةً لإرادةِ الله، وأرادةُ نوحٍ مخالفةً لإرادة الله ؟ فالجواب : إنَّ اللهَ تعالى شاءَ لأُؤلئك القومِ الكفرَ، وشاءَ لنوحٍ أن يسألَهم الإيمانَ، وشاءَ لإبليس أن يسألَهم الكفرَ، فالكلُّ بمشيئةِ الله تعالى. ويقالُ : معنى قولهِ :﴿ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ﴾ إن كان اللهُ يريد أن يُهلِكَكم، وينحِّيَكم من رحمتهِ بكُفرِكم، كما قال :﴿ فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً ﴾[مريم : ٥٩] أي هَلاكاً وعذاباً، والغَيُّ قد يكون بمعنى الْخَيْبَةِ، كما قال الشاعرُ : فَمَنْ يَلْقَ خَيْراً يَحْمَدِ النَّاسُ أمْرَهُ وَمَنْ يَغْوَ لاَ يَعْدَمْ عَلَى الْغَيِّ لاَئِمَاأي ومَن يَخِبْ، يقالُ : غوَى الرجلُ يَغْوِي غَيّاً ؛ إذا فسدَ عليه أمرهُ، أو فسدَ هو في نفسهِ، ومنه﴿ وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ﴾[طه : ١٢١] أي فَسَدَ عليه عيشهُ في الجنَّة، وهذا يُؤَوَّلُ أيضاً إلى معنى الْخَيْبَةِ فيها فسادُ العيشِ.
وذكرَ الحسنُ في معنى الآية :(لاَ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي الْيَوْمَ إذا نَزَلَ بكُمُ الْعَذابُ، فَاسْتَدْركُوا أمْرَكُمْ قَبْلَ نُزُولِ الْعَذاب لِتَنْتَفِعُوا بنُصحِي). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ هُوَ رَبُّكُمْ ﴾ أي مَالِكُكُم يقدرُ على إنزال العذاب بكم، ﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ ؛ أي إليه مصيرُكم بعد الموتِ فيجزِيَكُم بأعمالكم.
وهذه الآيةُ مما يحتجُّ بها أنَّ الشرطَ إذا اعترضَ على الشرطِ مِن غير أن يتخلَّلهُما الجوابُ، كان الشرطُ الثاني مُقدَّماً على الأوَّلِ في المعنى، حتى لو قالَ قائلٌ : إنْ دخلتَ الدارَ، إنْ كلَّمْتَ زيداً فعبدِي حرٌّ، لا يحنَثُ حتى يكلِّمَ ثم يدخلَ. فيكون تقديرُ الآية : ولا ينفعُكم نُصحِي إنْ كان اللهُ يريد أن يُغوِيَكُمْ إن أردتُ أن أنصَحَ لكم.