قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ﴾ ؛ أي فأرسَلَهُ معهم، فلَمَّا ذهبوا به اتَّفَقَتْ دَوَاعِيهم أن يجعلوهُ في الْجُب، قال السديُّ :(خَرَجُوا بهِ مِنْ عِنْدِ أبيهِمْ وَهُمْ مُكْرِمُونَ لَهُ، فَلَمَّا صَارُواْ فِي الْبَرِّيَّةِ أظْهَرُواْ لَهُ الْعَدَاوَةَ، فَجَعَلَ أخٌ لَهُ يَضْرِبُهُ، فَيَسْتَغِيثُ بالآخَرِ فَيَضْرِبُهُ، لاَ يَرَى فِيْهِمْ رَحِيماً، فَضَرَبُوهُ حَتَّى كَادُواْ يَقْتُلُونَهُ.
فَجَعَلَ يَصَيحُ وَيَقُولُ : يَا أبَتَاهُ لَوْ تَعْلَمُ مَا صُنِعَ بابْنِكَ ؟ فَقَالَ لَهُمْ يَهُودَا : ألَيْسَ قَدْ أعْطَيْتُمُوهُ مَوْثِقاً ألاَّ تَقْتُلُوهُ ؟ فَانْطَلَقُواْ بهِ فِي الْجُب فَدَلُّوهُ فِيْهِ، فَتَعَلَّقَ بشَفِيرِ الْبئْرِ، فَرَبَطُواْ يَدَيْهِ وَنَزَعُواْ قَمِيصَهُ وَقَالَ : يا إخْوَتَاهُ رُدُّواْ عَلَيَّ قَمِيصِي أتَوَارَى بهِ، فَقَالُواْ : أُدْعُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالأَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً يُلْبسُوكَ وَيُؤْنِسُوكَ، فَدَلّوهُ حَتَّى إذا بَلَغَ نِصْفَ الْبِئْرِ ألْقَوْهُ وَأرَادُواْ أنْ يَمُوتَ، وَكَانَ فِي الْبئْرِ مَاءٌ فَسَقَطَ فِيْهِ، وَآوَى إلَى صَخْرَةٍ فَقَامَ عَلَيْهَا وَجَعَلَ يَبْكِي، فَنَادَوا فَظَنَّ أنَّ الرَّحْمَةَ أدْرَكَتْهُمْ فَأَجَابَهُمْ، فَأَرَادُوا أنْ يَرْضُخُوهُ بالْحِجَارَةِ لِيَقْتُلُوهُ فَمَنَعَهُمْ يَهُودَا، وَكَانَ يَهُودَا يَأْتِيهِ بالطَّعَامِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَـاذَا ﴾ ؛ قال المفسِّرون : أوحَى اللهُ إلى يوسفَ في البئرِ تَقْويَةً لقلبهِ : لَتَصْدُقَنَّ رُؤْيَاكَ، وَلَتُخْبرَنَّ إخْوَتَكَ بصُنْعِهِمْ هَذا بَعْدَ الْيَوْمِ، ﴿ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ ؛ بأنَّ يوسفَ في وقتِ إخباركَ إيَّاهم بأمرِهم، وكان فيما أُوحي إليه : أنِ اصبر على ما أصابَكَ واكْتُمْ حالَكَ، فإنَّكَ تُخبرُهم بما فَعَلُوا بكَ.
وعن ابنِ عبَّاس : قال :(كَانَ يَوْمَئِذٍ ابْنَ سَبْعَ عَشْرَةِ سَنَةً وَبَقِيَ فِي الْجُب ثَلاَثَةَ أيَّامٍ). وفي بعضِ الروايات : أنه لَمَّا أُلقِيَ في الْجُب جعلَ يقول : يا شاهداً غيرَ غائبٍ، ويا قريباً غيرَ بعيدٍ، ويا غالباً غيرَ مغلوبٍ : اجعَلْ لي من أمْرِي فَرَجاً ومَخرجاً، فأوحَى اللهُ إليه وهو في البئرِ : اصبرْ على ما أصابَكَ واكْتُمْ حالكَ، فإنَّكَ تخبرُ إخوانَكَ في وقتٍ عن ما فعَلُوا بكَ في وقتِ إخباركَ إيَّاهم بأمرِهم.
ثم عَمَدوا إلى سَخْلَةٍ فذبَحوها، وجعلوا دَمَها على قميصِ يوسف، ﴿ وَجَآءُوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ ﴾ ؛ أي يتَبَاكون، ﴿ قَالُواْ يَاأَبَانَآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ ﴾ أي نتسابقُ في الرَّمي، وَقِيْلَ : نُسابَقُ في الاصطيادِ، ﴿ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا ﴾ ؛ ليحفظَهُ، ﴿ فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ﴾ ؛ أي بمُصدِّقٍ لنا في أمرِ يوسف لفَرطِ محبَّتِكَ له وتُهمَتِكَ إيانا فيه، ﴿ وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾ ؛ محل الصدقِ عندكَ في غير هذا الحديثِ.
ثم أرَوهُ قميصَهُ ملطَّخًا بالدمِ، فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾ ؛ أي بدَمٍ كذبٍ، فلمَّا نظرَ يعقوبَ إلى القميصِ قال : ما عهدتُ ذِئْباً حَلِيماً مثلَ هذا الذئب! فَكَيْفَ أكلَ لحمه ولم يخرِّقْ قميصَهُ؟! ولو أنَّهم كانوا مزَّقُوا قميصَهُ حين لطَّخوهُ بالدم، كان ذلك أبعدَ عن التُّهمةِ عنهم، ولكن لا بدَّ في المعاصِي أن يقترنَ بها الحزنان، ﴿ قَالَ ﴾ ؛ يعقوبُ : كَذبْتُمْ، ﴿ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً ﴾ أي زيَّنت لكم أنفسُكم في هلاكِ يوسف فضيَّعتموهُ، يقالُ : إن يعقوب كما قال لَهم : لو أكلَهُ الذئبُ فشَقَّ قميصَهُ! قالوا : لو قتَلهُ اللصوصُ لَمَا ترَكُوا قميصَهُ، هل يريدون إلا الثيابَ والمتاعَ، فَسَكَتوا متحيِّرين.