قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ﴾ ؛ أي جعَلنا لكم الدولةَ والرجعةَ عليهم، ﴿ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ﴾ ؛ أي وأعطيناكم أمْوَالاً وبنينَ، ﴿ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً ﴾ ؛ أي أكثرَ عَدَداً ينفِرُون إليهم.
وذلك أنَّ رجُلاً من أهلِ الكتاب يقالُ له : كُورشُ غزَا أرضَ بابل، وهي بلادُ بَخِتْنَصَّر، فظهرَ عليهم فقتلَهم وسكنَ ديارَهم، وتزوَّجَ امرأةً مِن بني إسرائيلَ أُخْتُ مَلكِ بني إسرائيلَ، فطلَبت من زوجِها أن يَرُدَّ قومَها إلى أرضِهم ففعلَ، فمكثَ في بيتِ المقدس مِائتين وعشرين سنةً، وقامت بينهم الأنبياءُ، ورجَعُوا الى أحسنَ ما كانوا عليهِ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ﴾.
وعن حذيفةَ بن اليمانِ قالَ : قال رسولُ الله ﷺ في هذهِ الآية :" إنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ لَمَّا اعْتَدَواْ وَقَتَلُواْ الأَنْبيَاءَ، بَعَثَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَلِكَ الرُّومِ بَخِتْنَصَّرَ، فَسَارَ إلَيْهِمْ حَتَّى دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَحَاصَرَهُمْ وَفَتَحَهَا، فَقَتلَ عَلَى دَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا أرْبَعِينَ ألْفاً - وَقِيْلَ : سَبْعِينَ ألْفاً - وَسَبَى أهْلَهَا، وَسَلَبَ حُلِيَّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ ابْنُ دَاوُدَ قَدْ بَنَاهُ مِنْ ذهَبٍ وَيَقُوتٍ وَزُبُرْجُدٍ، وَعَمُودُهُ ذهَبٌ، أعْطَاهُ اللهُ ذلِكَ وَسَخَّرَ الشَّيَاطِينَ لَهُ يَأْتُونَهُ بهَذِهِ الأَشْيَاءِ.
ثُمَّ سَارَ بَخِتْنَصَّرَ بالأُسَارَى حَتَّى نَزَلَ بَابلَ فَأَقَامَ بَنُو إسْرَائِيلَ فِي مُدَّتِهِ سَنَةً تَتَعَبَّدُ الْمَجُوسَ وَأبْنَاءَ الْمَجُوسِ، ثُمَّ إنَّ اللهَ تَعَالَى رَحِمَهُمْ فَسَلَطَ مَلِكاً مِنْ مُلُوكِ فَارسَ يُقَالُ لَهُ كُورشُ وَكَانَ مُؤْمِناً، فَسَارَ إلَيْهِمْ فَاسْتَنْقَذ بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْهُمْ، وَاسْتَنْقَذ حُلِيَّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى رَدَّهُ إلَيْهِ، فَأَقَامَ بَنُو إسْرَائِيلَ مُطِيعِينَ اللهَ زَمَاناً، ثُمَّ عَادُوا إلَى الْمَعَاصِي، فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَلِكاً آخَرَ وَحَرَقَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَسَبَاهُمْ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا ﴾[الإسراء : ٥] يعني أُولى الْمَرَّتَين، واختلَفُوا فيها، فعلى قولِ قتادة :(إفْسَادُهُمْ فِي الْمَرَّةِ الأُوْلَى مَا تَرَكُواْ مِنْ أحْكَامِ التَّوْرَاةِ، وَعَصَوا رَبَّهُمْ وَلَمْ يَحْفَظُوا أمْرَ نَبيِّهِمْ مُوسَى، وَرَكِبُواْ الْمَحَارمَ).
وعن ابنِ مسعود رضي الله عنه (أنَّ الْفَسَادَ الأَوَّلَ قَتْلُ زَكَرِيَّا)، وَقِيْلَ : قَتْلُهُمْ شَعْيَا نَبيُّ اللهِ فِي الشَّجَرَةِ، قال ابنُ اسحق :(إنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أخْبَرَهُ أنَّ زَكَرِيَّا مَاتَ مَوْتاً وَلَمْ يُقْتَلْ، وَإنَّمَا الْمَقْتُولُ شَعْيَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ ﴾[الإسراء : ٥] يعني جَالُوتَ وجنودَهُ، وقال ابنُ اسحق :(بَخِتْنَصَّرَ الْبَابليُّ وَأصْحَابُهُ، أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ؛ أيْ ذوِي بَطْشٍ شَدِيدٍ فِي الْحَرْب، فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَار ؛ أيْ طَافُوا وَدَارُواْ). وقال الفرَّاء : قتلوكم بين بيوتكم، قال حَسَّنُ : وَمِنَّا الَّذِي لاَقَى بسَيْفٍ مُحَمَّدٍ فَجَاسَ بهِ الأَعْدَاءَ عَرْضَ الْعَسَاكِرِوَقِيْلَ :(فَجَاسُواْ) أي طلَبُوا مَن فيها كما تُجَاسُ الأخبارُ.
وقولهُ تعالى :﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ ﴾[الإسراء : ٧] أي المرَّة الآخرة، وهو قصدُهم قتلَ عيسى حين رُفِعَ، وقتلُهم يحيى بن زكريَّا عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ، فسلَّطَ الله عليهم طَطُوسُ بن استِيباتيُوس فَارسَ وَالروُّمَ حِينَ قَتَلُوهُمْ وسَبَوهم، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ ﴾[الإسراء : ٧].