قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ﴾ ؛ أي وعَهِدْنَا إلى إبراهيمَ أيضاً أن أذِّنْ فِي النَّاسِ بالْحَجِّ يَأْتُوكَ رجَالاً، فقال : يا رب وما يبلغُ صَوْتِي ؟ فقال : عليك الأذانُ وعليَّ البلاغُ، فصَعَدَ أبا قَبيْسٍ، ونَادَى في الناسِ : ألاَ إنَّ ربَّكُمْ قد بَنَى بيتاً، وأمرَكم أن تَحُجُّوهُ فَحَجُّوهُ، فاسمعَ اللهُ نداءه جميعَ مَن في أصلاب الرجالِ وأرحامِ النِّساء، وما بينَ المشرق والمغرب، والبَرِّ والبحرِ، فَلَبَّاهُ كلُّ حَجَرٍ وَمَدرٍ، وكلُّ مؤمنٍ ومؤمنة في أصلاب الآباء وأرحام الأُمَّهات، قالوا : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، فجعلَ اللهُ التلبيةَ شعاراً للحجِّ، فكلُّ مَن حَجَّ فهو ممن أجابَ إبراهيمَ عليه السلام.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ ﴾ ؛ معناهُ : يأتوكَ مُشَاةً على أرجُلِهم وعلى كلِّ جَمَلٍ مهزولٍ أضْمَرَهُ السفرُ، ورجَالٌ جمع رَاجِلٍ، نحو صاحِبٍ وأصحابٍ. وعن ابنِ عبَّاس أنه قالَ :(مَا نَدِمْتُ عَلَى شَيْءٍ فَاتَنِي إلاَّ أنِّي لَمْ أحُجَّ رَاجِلاً)، وقد حَجَّ الْحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا خَمساً وعشرين حَجَّةً ماشياً من المدينةِ إلى مكَّةَ، وأن النَّجَائِبَ لتقادُ معه.
وعن رسولِ الله صلى عليه وسلم أنهُ قال للحُجَّاجِ :" لِلرَّاكِب كُلُّ خَطْوَةٍ تَخْطُوهَا رَاحِلَتُهُ سَبْعِيْنَ حَسَنَةً، وَلِلحَاجِّ الْمَاشِي بكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا سَبْعُمِائَةِ حَسَنَةٍ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ " قِيْلَ : وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ ؟ قَالَ :" الْحَسَنَةُ بمِائَةِ ألْفٍ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ ﴾ ؛ أي من بُلدانٍ شتَّى، مِن كلِّ طريقٍ بعيد، يقالُ عَمِيقَة إذا كانت بعيدةَ القرارِ. وإنَّما قال (يَأْتِيْنَ) ؛ لأنه في معنى الجمعِ، وَقِيْلَ : معناهُ : وعلى نَاقَةٍ ضَامِرَةٍ.
وعن بشْرِ بن مُحَمَّدٍ قال : رأيتُ في الطَّوافِ كَهْلاً قد أجهدتْهُ العبادةُ، واصفَرَّ لونهُ، وبيدهِ عصا وهو يطوفُ معتمداً عليها، فتقدَّمتُ إليه لأسألَهُ، فقال لِي : مِن أين أنتَ ؟ فقلتُ : من خُراسان، قال : من أيِّ ناحيةٍ هي ؟ قلتُ : من نواحي المشرقِ، فقال لِي : فِي كم تقطعونَ هذا الطريقَ ؟ قلتُ : شهرين أو ثلاثة، قال : أفلاَ تَحُجُّونَ في كلِّ عام وأنتم جيرانُ البيتِ ؟ قلتُ : وأنتم كم بينَكُم وبين هذا البيتِ ؟ فقال : مسيرةُ خمسِ سنين، فقلتُ : والله إن هذا الجهدُ لَبَيِّنٌ، والطاعةُ الجميلة والمحبة الصادقةُ، فضَحِكَ في وجهي وأنشأَ يقولُ : زُرْ مَنْ هَوَيْتَ وَإنْ شاطتَ بكَ الدارُ وَحَالَ مَنْ زُرْتَهُ حُجُبٌ وَأسْتَارُلاَ يَمْنَعَنَّكَ بُعْداً مِنْ زِيَارَتِهِ إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يَهْوَاهُ زَوَّارُ


الصفحة التالية
Icon